بقلم - د. آمال موسى
نعم علماء الاجتماع العرب تحديداً، وأكثر من غيرهم، هم اليوم في ورطة حقيقية.
بعض علماء الاجتماع يعلم بالوقوع في هذه الورطة، والبعض الآخر يعاين منذ سنوات الوضع المبهم أبستمولوجياً وبحثياً ولا يعرف أن ذلك الإبهام ومظاهره عين الورطة ذاتها. فالاجتماعي في صورته الراهنة أصبح واقعاً يتساوى فيه الكلي مع الجزئي والأساسي والحتمي مع الثانوي، والمادي المحض مع الرمزي. وهي «سراديب» اللعبة الاجتماعية؛ بما يعنيه ذلك من غموض سبق أن وصفه ميشال مافيزولي بـ«الظلمة القاتمة» أثناء توصيفه المتناقضات التي تميز الحياة اليومية في عالم اليوم.
المشتغلون اليوم في مجال السوسيولوجيا كثيراً ما ينتابهم الشعور بأنّهم يدورون في حلقة مفرغة، أو أنّهم كمن يُحدث زوبعة في فنجان، رغم جدية الأبحاث وبراعة كثيرين في التوليد السوسيولوجي؛ لغةً وفكرةً وحتى ابتكاراً للمفاهيم. لذلك، فإني أتوقع أن النبهاء من علماء الاجتماع العرب قد تفطنوا إلى هذه الورطة، ولكن قلة قليلة نسبت الورطة لعالم الاجتماع العربي نفسه: هناك من حمّل الواقع المركب والإيقاع الصاروخي لصيرورة الاجتماعي اليوم كل الورطة، وهناك من ألقى المشكلة على عاتق المناهج واتهمها بقصورها الكوني الاجتماعي الإنساني، وأنّها غير صالحة للتوظيف والمقاربة إلا على المجتمعات التي انبثقت منها. ولكن لم نسمع حركة شجاعة وجريئة بصوت مرتفع تعترف: نحن علماء الاجتماع العرب في ورطة حقيقية ولا نعرف من أين نبدأ التحليل وأين ننتهي وأي براديغم نتبنى وأي نظرية نضعها في غياهب تاريخ العلم ونقفل عليها بالتجاوز.
طبعاً هناك كلام عن موت نظرية، وكلام عن ظهور نظرية اجتماعية أخرى، وتاريخ الفكر، كلها انقلابات من هذا النوع، ولكنه كلام مكرر قاله علماء اجتماع من خارج الفضاء السوسيولوجي العربي.
لن أطيل. من جهتي عشت حالة الإبهام وما زلت، ولكن عالم الاجتماع الفرنسي ألان توران في كتابه «براديغم جديد لفهم عالم اليوم» مكنني من رؤية الورطة، لأنه حين يتحدث توران عن البديل الذي يقترحه لفهم العالم الجديد، يتبين لي أن البديل المقترح خاص بعلماء الاجتماع غير العرب، وأن المجتمعات المعنية ببديله البراديغمي مجتمعات متقدمة تاريخياً وسياسياً واقتصادياً على المجتمعات العربية، ومن ثم بدأت تظهر لنا أسباب ورطة علماء الاجتماع العرب.
سأوضح أكثر:
في كتابه الصادر عام 2006 يودع ألان توران البراديغمات المعروفة والمعجم السوسيولوجي القائم على مفاهيم العلاقات الاجتماعية الصراعية والطبقية والدولة والسلطة والحركات الاحتجاجية الزوبعة والشعب والثوري ودور النقابات ووسائل الإنتاج وعالم البنى التحتية، ليحط الرحال منهجياً عند ما سماه «التحليل الثقافي» الذي عدّه وحده اليوم يُمكننا من فهم العالم، مع العلم بأن توران بتخليه عن تحليل المجتمع يكون قد مال بشكل واضح نحو الذات والمطالبة بالحقوق الثقافية. بمعنى آخر، فإن توران دعا إلى تجاوز البراديغمات المعنية بتحليل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، التي لم تعد صالحة للسوسيولوجيا الرامية إلى الفهم والتفسير مقدماً في ذات الدعوة؛ بديله المتمثل في تبني التحليل الثقافي لفهم الحركات الفردية الفئوية الاجتماعية التي أصبحت الحقوق الثقافية شرارة انبثاقها ومصدر تحقق صيرورتها بالمعنى السارتري الوجودي.
السؤال الذي يخصّ علماء الاجتماع العرب: هل المجتمعات العربية ينطبق عليها اقتراح ألان توران لفهم عالم اليوم؟
لا يهم ما إذا كنا ننتمي إلى هذا العالم أم أن العالم الذي يقصده توران يقصينا عن خريطته. الأكثر أهمية حسب تقديرنا أن الاقتصار على التحليل الثقافي وإهمال غيره وإنْ كان يتماشى مع المجتمعات الأوروبية، فإنه لا ينطبق على مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي هي اليوم تعيش حراكها وحركاتها الاجتماعية واحتجاجاتها الزوبعة في ظل علاقات صراعية تفعل فيها البنى التحتية فعلها؛ تماماً كما تفعل ذلك الحقوق الثقافية الداخلة على خطوط الحراك بقوة وبشكل متوازٍ ومتداخل.
إنّها الورطة حقاً.
فالمطلوب هو تحليل متعدد البراديغمات دفعة واحدة للمجتمعات العربية. وما تجاوزته المجتمعات الأوروبية، فإن مجتمعاتنا بصدد ممارسته، لذلك فالحراك الحاصل اليوم هو الذي يُربك بحكم تعدد الاستقطابات، حيث إن الحراك سياسي واقتصادي وحقوقي ثقافي، وهي تجربة، على ما يبدو فريدة، من نوعها تاريخياً.
مشكلة التغيير في مجتمعاتنا أنه محكوم بوتيرة زمنية نفسية اجتماعية كونية سريعة جداً، وتتناقض ووتيرة التغيير المعروفة عادة بالبطء. لذلك فإننا نعرف نوعاً من الصدمة السوسيولوجية، والواقع متشعب ومتشابك بشكل يحتاج إلى الاعتراف بالورطة وتحديد مظاهرها أولاً.
من المسارب التفهمية المهمة القادرة على تبديد قدر من حالة الإبهام السوسيولوجية التي أشرنا إليها، أن ما تحدث عنه المفكر السوسيولوجي الفرنسي توران من تعويل على البراديغم الثّقافي في فهم عالم اليوم، قابل للاستثمار في الإنتاج السوسيولوجي العربي من منطلق أن النضال من أجل الحقوق الثقافية على أشده اليوم مع اختلافٍ طبعاً بين الفضاءين العربي والأوروبي من ناحية أن النضال الحقوقي الثقافي العربي في طوره الأول، ولكن ليس التحليل الثقافي وحده كافياً لفهم المجتمعات العربية، ويمكن للأبعاد السياسية والاقتصادية الاستفادة كثيراً من تنمية الفئات المعنية بالحقوق الثقافية وخلق نوع من التفاعل قد يُرتب الواقع الاجتماعي مع الوقت ترتيباً أقل فوضى وتشابكاً.
يمكن لعلماء الاجتماع العرب الاستفادة من أطروحة توران الجديدة، التي انقلب فيها على أطروحاته السابقة، ولكن سيقعون في ورطة اللافهم إذا تمت الإطاحة بالتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فهي إطاحة لا تخلو من تعسف على الحق التاريخي في الانتقال من براديغم إلى آخر، وتعويض ذلك بوصفةٍ براديغماتية تجمع بين براديغمات يكمل بعضها بعضاً.
طبعاً يمكن لعلماء الاجتماع العرب إدراك الورطة وتقاسمها. وهذه خطوة أولى نحو مجابهة الورطة.