بقلم: د. آمال موسى
كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن الشعبوية حتى إنّها أصبحت من أكثر الكلمات تواتراً في النقاشات والكتابات والندوات ومختلف أشكال الحوار والجدل. والطاغي على هذه النقاشات هو توجيه توصيف الشعبوية بوصفه تهمة ضد مَن ينتصر لخيار الشعب ويوافق هوى الشعوب وميولها.
طبعاً الشعبوية من المواضيع المثيرة للنقاش ولكن طرح القضية في الفضاء العربي يتميز ببعض المغالطات والغموض والأخطاء.
سنبدأ بالأخطاء ولعل أولها وأخطرها هو استعمال النخبة خطاباً تحقيرياً ضد شعبها. وهو خطاب ينمّ عن انفعال النخبة واستعمالها هي بدورها لشعبوية من نوع آخر إذا سلمنا بأن الشعبوية هي الانفعالية والانقياد الأعمى دون عقلانية. فمن غير الممكن اعتبار خطاب الشتم والتحقير من مظاهر العقلانية والنّقد.
من جهة أخرى، يمكننا أن نستنتج أن الخطاب التحقيري ضد الشعوب يعكس وجود أزمة تواصل عميقة بين النّخب والشعب من جهة ويكشف عن فشل النخبة في الاضطلاع بدورها في عقلنة الشعوب من جهة ثانية. لذلك فإن النخبة باستعمالها للخطاب التحقيري للشعب إنّما تدافع عن فشلها من خلال التعالي عليه.
فمثلاً في تونس لاحظنا كيف أن جزءاً كبيراً من النخبة يصف الثورة التونسية بأنها «ثورة البرويطة»، مع ما يعنيه ذلك من معنى يفيد الاحتقار لفئة عريضة من الشعب التونسي وما ينتج عن ذلك من جدار سميك بين النخبة والشعب. هنا نتساءل عن دور النخبة وما إذا كان تحقير الشعب هو من الأدوار المطلوبة منها، وإلى أي حد يمكن لمثل هذا الدور أن يمكّنها من أداء وظيفتها؟
نظن أن وظيفة النخبة هو فهم الشعب وتفسير الظواهر الاجتماعية وأنماط السلوك والاستعدادات وردود الفعل كي تتمكن من تحديد المشكل والأسباب. ويحتاج الفهم إلى طرح الأسئلة والهدوء في التفكير والمقاربة.
طبعاً ليس المطلوب الانتصار للشعب وتقديسه في كل الحالات، ولكن المطلوب هو عدم تحقيره لأن التحقير مدخل للعنف.
أيضاً استسهال وصف كل من يدافع عن الشعب بالشعبوية يتضمن مغالطات ويبعدنا عن جوهر المشكل: الشعب يتحرك عندما تفشل النخب السياسية في إشباع توقعاته وهو ينتقل من نخبة إلى أخرى عبر صناديق الاقتراع لأن التي سبقت قد فشلت وحادت عن الوعود التي تعهدت بها، خصوصاً عندما يتوازى ذلك بسلوك سياسي غير ناضج ومهتم بالصراعات الشخصية على حساب إيجاد الحلول التي تجعل الشعب يتحسس تحسن أوضاعه ولو جزئياً. فالمشكلة في فشل النخب السياسية التي تجعل الشعب يضطر إلى ممارسة الانتخاب العقابي وأحياناً يسقط الشعب في معاقبة نفسه ومعاقبة النخبة السياسية الحاكمة في نفس الوقت.
بمعنى آخر فإن المتحكم في ظهور الشعبوية وتراجعها ليس الشعب بل النخب السياسية الحاكمة، وكلما نجحت هذه الأخيرة في زرع الأمل وتنميته، كان الفعل السياسي والاجتماعي في يدها.
من ناحية أخرى، نعتقد أن الشعبوية ليست كلها مرفوضة، وهناك من الدراسات الغربية من فطنت إلى عنصر إيجابي في الشعبوية يتمثل في الحماسة التي تطلقها في الشعب فتجعله يجدد الثقة بنفسه ويُقبل على تغيير بروح جديدة. كما لا تفوتنا أن الشعبوية تمكّن النخب من التعرف على شعوبها أكثر ومعرفة مطالبها وما يحركها؛ فمثلاً وصف خيار الشعب التونسي في الانتخابات الرئاسية بالشعبوية والنخب التي ساندت الشعب لحقها أيضاً نفس الوصف، يمثل عنفاً رمزياً من قِبل النخب في حين أن الأهم هو البحث عن أجوبة حقيقية وشجاعة عن سؤال: لماذا اختار الناخبون التونسيون وبنسبة 73% شخصية غير متحزبة ولم تمارس السياسة من قبل وهو الرجل الجامعي المختص بالقانون والمعروف بنظافة اليد كما يقولون؟ هذا يعني أن التونسي اختار منح ثقته للقانون وللرجل القريب من الشعب سلوكاً ومستوى اقتصادياً. بلغة أخرى هو تصويت لصالح قيم معينة تتجاوز الأشخاص.
أيضاً خطاب التحقير المشار إليه يكشف عن غموض موقف النخب من الديمقراطية: فمرة تمتدح الديمقراطية ومرة تهجوها. والمعروف أن الديمقراطية هي حكم غالبية الشعب. والقبول بالديمقراطية يعني آلياً القبول بشروطها وبنتائجها؛ لذلك فإن التشنيع باختيار الشعب عبر آلية التصويت الانتخابي هو التشنيع بالديمقراطية نفسها التي تدّعي النخب أنها ناضلت من أجلها. نحن هنا أمام موقف يتميز بالانفصام. وبدل أن تتعامل النخب الفكرية مع الديمقراطية كمرآة لرؤية الحقائق والواقع والتعرف على الملامح الأساسية للمجتمع من خلال ممارسته الانتخابية نجدها مصابة بحالة من الهلع والصدمة مما يعني أنها تفتقر إلى الفضول المعرفي وإلى شجاعة قراءة الواقع كما هو لا كما تريده هي. إن الطور الأول من التجربة الديمقراطية هو عبارة عن حصص علاجية يبوح فيها الناخبون بمعاناتهم وبغضبهم ويمارسون فيها، في فرصتهم الوحيدة المشروعة، العقاب ضد مَن وعد بالتغيير للأفضل ولم يفعل، وضد من باع لهم الأمل فبات وهماً. والنخبة المعنية حقاً بعقلنة الشعب هي التي تنكبّ على قراءة نتائج التصويت الانتخابي من خلال المتغيرات الاجتماعية، من متغير الجنس والفئة العمرية والمستويات الاقتصادية والمستوى التعليمي وغير ذلك. أعتقد أن الديمقراطية مرآة سحرية لرؤية ملامح الشعب الكبرى والتفصيلية، وهو ما تحتاج إليه النخبة لتعرف من أين تبدأ التغيير الثقافي.