بقلم - جورج شاهين
بعد ستة ايام على إحالة جريمة تفجير المرفأ الى المجلس العدلي، وقبل دقائق من استقالة حكومة «مواجهة التحدّيات»، صدر مرسوم تعيين القاضي فادي صوان محققاً عدلياً في جريمة عُدّت الثالثة بحجمها ونوعيتها عالمياً. بعدها عُقد الرهان على القضاء لمعرفة مسار القضية. وبمعزل عن هوية القاضي وعائلته، طُرح سؤال كبير: هل يمكن توافر قاضٍ من «صوان» يمكنه الوصول الى حقيقة ما جرى وكشف خفاياها؟
في ظروف سوريالية وعاطفية رافقت هول ما تركه انفجار المرفأ وحجم آثاره التي حلّت بأبناء بيروت والمقيمين فيها من جنسيات مختلفة، وما خلّفه من أضرار، وعد مجلس الوزراء بتحقيق شفاف خلال خمسة ايام، وهو ما اثار سخرية كثر في الداخل والخارج. كان ذلك قبل ان يبدأ مشوار التحقيق العدلي الذي قاده القاضي فادي صوان بعد السادس عشر من آب. فهو الذي حظي عند تكليفه المهمّة بمجموعة من الشهادات التي تحدثت في مناقبيته، وما يتمتع به من استقلالية، وقدرته على تجاوز المصاعب التي يمكن ان تواجهه، ورفض الضغوط المتوقعة، طالما انّه يتعاطى مع نكبة هي من اخطر الأحداث بكل المواصفات.
وبمعزل عمّا آلت اليه الآلية القضائية التي لجأ اليها صوان طوال الفترة التي امضاها في مهمته، الى ان كُفّت يده عن الملف امس الاول، فقد عبر مجموعة من المطبات السياسية والإدارية والقانونية والقضائية، في محاولة قصد منها إتمام مهمته في افضل الظروف الممكنة. فالجميع يدرك حجم المصاعب التي واجهته. فهو كُلّف مهمة استثنائية، في بلد لا وجود فيه لكل ما يشير الى إمكان ضمان «استقلالية القضاء»، والتي زادت من صعوبتها، انّ البلد لم يكن قد خرج من اصداء وتردّدات «الضربة القاضية» التي استهدفت المناقلات والتشكيلات القضائية التي وضعها مجلس القضاء الأعلى مطلع الصيف الماضي، وادّت الى تجميدها وكأنّها لم تكن. فبقي للمرة الاولى القديم على قِدَمه في السلك القضائي، الذي لم يخسر سوى من توفي او أُحيل الى التقاعد او أُبعد من السلك.
قد لا يكون هناك - في رأي بعض المراقبين ـ اي علاقة بين ما جرى في التشكيلات والمهمّة التي كُلّف بها صوان، فتسمية المحقق العدلي أُنجزت وفق القواعد القضائية والقانونية والدستورية في مثل هذه الحالات، ما بين المجلس الأعلى للقضاء ووزيرة العدل، الى حين صدور مرسوم التكليف اصولاً. ولم يتمكن احد من سيئّي النيّة ان يطاولها بأي اعتراض او ملاحظة.
وفي ظلّ استحالة الطعن في أي من الإجراءات القانونية القضائية التي اتُخذت، فإنّ التحول الى مناقشة الجوانب السياسية والاعلامية التي رافقت المراحل التي قطعها صوان، يسمح بكثير من الملاحظات السلبية، وخصوصاً عند الخروج عن كل الاصول التي يجب التعاطي من خلالها مع مهمّة من هذا النوع. فهول النكبة التي حلّت باللبنانيين من ضحايا الانفجار، بعدما تجاوز عددهم الـ200 وعدد الجرحى الآلاف الـ6 بقليل، وما خلّفه من اضرار في منشآت المرفأ وإهراءاته والأحياء السكنية والتجارية المحيطة به، بدأت القضية تتخذ منحى سياسياً وإنسانياً واجتماعياً، تجاوز حدود الوطن الى العالم أجمع. فأُعلنت حال الاستنفار الدولي، عبر اكثر من جسر جوي وبري وبحري لتقديم المساعدات الطبية والعينية والغذائية والمحروقات، من الدول والمؤسسات الاقليمية والدولية والاممية، لنجدة اللبنانيين. كما تقدّم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لائحة الزوار الدوليين الى بيروت، فاتسعت له الساحات التي لم تشهد اي زيارة لمسؤول رسمي او حكومي، الى درجة باتت المنطقة المنكوبة مرتعاً لعصابات السرقة التي دخلت البيوت والمؤسسات، لتحمل ما خفّ حمله وغلى ثمنه، الى ان أُفرغت من محتوياتها.
تزامناً، عبّرت الدولة بمعظم مؤسساتها الرسمية عن عجز مطلق في مواجهة نتائج ما حصل. والى العزلة السياسية والديبلوماسية العربية والغربية التي كانت قد فُرضت على السلطة بمختلف مواقعها، انحصر دور الدولة في تكليف الجيش اللبناني والصليب الاحمر ومعهما مجموعات من المجتمع المدني، لإحصاء الضحايا وتقدير الأضرار وتوزيع المساعدات اليومية، قبل ان تخصّص الدولة مساعدات مالية محدودة بالحّد الأدنى المتوافر، في خزينة شبه فارغة تعاني من نقص حاد في العملات الصعبة الى حدود ندرتها وفقدانها.
ليس في ما سبق، محاولة لإجراء جردة بالأحداث الأليمة التي عاشها اللبنانيون وارشفتها، انما للتدليل على وضع قائم كاد يحصر دور الدولة اللبنانية ومؤسساتها بمهمة المحقق العدلي، بعدما انعدم في مختلف وجوه الأزمة، فتحول صوان قبلة الأنظار، مُستهدفاً من القريب والبعيد، سواء من اجل دعمه او من اجل تهشيم دوره والتشكيك بقدراته. وان تجاوز القاضي صوان بعض الإجراءات الإدارية ـ عن قصد او غير قصد ـ فقد اتُهم بتجاهل بعض الخطوط الحمر في تعاطيه مع رئيس حكومة تصريف الاعمال ومجلس النواب والوزراء السابقين، متجاوزاً موضوع الحصانات التي يتمتع بها النواب والمحامون، رغم بعض التفسيرات التي قالت بسقوطها تلقائياً في مثل الحالات التي كانت امامه.
وان اتكأ صوان على كمّ الثقة التي استقاها من اكثر من مصدر شعبي وسياسي وقضائي، فقد ظهر واضحاً انّه لا يمكن الرهان عليها عند ملامسة بعض الرموز الحكومية والنيابية غير العادية. فكانت المراجعة امام محكمة التمييز لكف يده بـ «الإرتياب المشهود»، لمجرد اللجوء الى اسباب لا تتناسب وحجم النكبة ومعاناة فئة كبيرة من ضحايا التفجير، وهو ما طرح اكثر من سؤال حول مضمون قرار كف اليد، الذي استند في جزء منه الى كون صوان من المتضررين في منزله من جراء الانفجار، وانه تقاضى مبلغاً متواضعاً لقاء الأضرار التي طاولته، وهو ما لم يقنع كثر ليكون سبباً لإعفائه من المهمة، بمقدار ما اكّد وجود قرار سياسي صدر عن جهات فاعلة تلاقت على إبعاده، فهي هدّدت ونفّذت بما قالت به وكان لها ما أرادته.
اما وقد جرى ما جرى، ودخل التحقيق في التفجير مرحلة البحث عن محقق عدلي جديد، فتجدر الإشارة الى انّ ما هو مبين، انّ التسمية تتجّه الى مجموعة من القضاة المحسوبين على اهل السلطة، بنحو مباشر او غير مباشر. وهو ما دفع الى معادلة من الصعب مناقشتها للطعن بها، وهي تقول، انّ من غير الممكن ان يكون هناك قاضٍ من «صوان» يقوم بالمهمّة الخطيرة المناطة به، ويضرب بيد من حديد، واضعاً الجميع امام مسؤولياتهم في مثل النكبة التي حلّت باللبنانيين، ويكون قادراً على مواجهة كل الاطراف المتضررة من إمكان الوصول الى جوانب ولو محدودة من الحقيقة في ما حصل في الرابع من آب.