بقلم - عبد المنعم سعيد
بحكم التواجد في جيل عربي عاش مع النكبة والنكسة وتعبيرات كثيرة لها علاقة بالصراع العربي - الإسرائيلي، فإن اللافت للنظر أن المملكة العربية السعودية هي مركز الحديث عن الصراع الذي لا يزال جارياً بأشكال مختلفة رغم معاهدات السلام والتطبيع. وبحكم المهنة، فإن مطالعة ما يُنشر عن الحالة «الأبدية» للصدام، فإنه لا يمر يوم دون مقالة مهمة أو دراسة متميزة عن هذه الحقيقة، حيث بات «التطبيع» السعودي - الإسرائيلي هو مركز التحولات الكبرى القادمة؛ لأن ذلك يعبّر أولاً عن إصرار أميركي من أجل التقدم في الشرق الأوسط؛ وثانياً عن رغبة إسرائيلية أن يكون ذلك هو التطهر السياسي لحكومة إسرائيل. «اللحظة السعودية» في أبعادها الإصلاحية في الداخل، وعزمها على الاستقرار الإقليمي في الخارج، تجعل التعامل مع حقائق الصراع فريضة واجبة.
الحقيقة الأولى هي أن الصراع استمر عالمياً من فترة الاستعمار إلى زمن التحرر والاستقلال، ومن الحرب الباردة إلى ما بعد الحرب الباردة، ومن العولمة إلى ما بعد العولمة والحرب الأوكرانية. وعلى مدى أكثر من قرن من الزمان بدا الصراع أبدياً، كالقدر المحتوم والقضاء النافذ. التناقض العربي - الإسرائيلي كان به طاقات كامنة أبقته مشتعلاً منذ نهاية القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين، حتى وصل إلى القرن الواحد والعشرين. وكما حال الزواحف التي تتلون بالمحيط الذي توجد فيه أعاد الصراع تشكيل نفسه وفق ظروف عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) حينما اشتعلت حروب المقاومة والانتفاضة، وحروب لبنان، وحروب غزة. وعندما أضيف «صراع الحضارات» إلى القائمة، كان الصراع جاهزاً لاستيعاب العلاقات الملتهبة الجديدة، حيث كان الدين حاضراً منذ بداية الصراع، وجاءت المناسبة لكي توقظ فتنة لم تكن نائمة أبداً.
والحقيقة الثانية هي أن الصراع كان متعدد المستويات، وتوالت عليه عناصر دولية وإقليمية ومحلية اشتبكت مع بعضها في صراع حيّر المؤرخين وعلماء السياسة من حيث درجة التعقيد، وحجم التكلفة المادية والمعنوية وحتى الأخلاقية، ولا ننسى تكلفة الفرصة البديلة، ورغم فداحتها لم يظهر أبداً في حالة من الإجهاد التي يكون مقدمة عادة لموقف تُجرى فيه التسوية.
والحقيقة الثالثة أنه لا يوجد سيناريو واحد للتعامل مع الموضوع وإنما سيناريوهات عدة، على الحصيف أن يبحث حول أيِّ منها يجب الدفع فيه. السيناريو الأول، يقبل الأوضاع القائمة على ما هي عليه، وهو «عبثي» يرى أن هذه القضية انتهت أصلاً وأن كل ما يحدث الآن على صعيد الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لبدء المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين لن ينتج أي تداعيات إيجابية، لسببين: أولهما، أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترى أن الوضع الحالي المتمثل في الانقسام الحاد بين حركة «فتح» في الضفة الغربية وحركة «حماس» في قطاع غزة مثالي بالنسبة لها، ومن هنا حاولت السير في اتجاهين: عدم تقديم أي تنازلات رئيسية في الملف الفلسطيني بسبب عدم اقتناعها بجدوى ذلك، فضلاً عن إمكانية أن تتسبب هذه الخطوة في انفراط عقدها نتيجة وجود تيارات متشددة داخلها ترفض تقديم أي تنازلات حقيقية. والآخر، صعوبة التوصل إلى مصالحة بين حركتَي «حماس» و«فتح» تنهي الصراع القائم بينهما، لا سيما بسبب تبني كل منهما برنامجاً سياسياً مختلفاً عن الآخر، فضلاً عن دخول قوى إقليمية متعددة ذات مصالح متباينة على خط ضبط حدود التفاعل بين الطرفين بما يخدم مصالحها وأجندتها الإقليمية في المقام الأول.
السيناريو الثاني، هو أنه رغم كل العقبات، فإنه من الممكن العودة إلى حل الدولتين المتجاورتين في سبات ونبات وسلام ودعة، من خلال مفاوضات يتوقف فيها العنف وبناء المستوطنات؛ وذلك باستعادة ما كان معروفاً «بخريطة الطريق» تحت إشراف «الرباعية الدولية» المكونة من الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. مثل ذلك كان حلم العشرية الأولى من القرن الحالي أن يحدث توافق دولي صار الآن مستحيلاً على حل الصراع في زمن يجري فيه الاستعداد لمواجهة حرب عالمية ثالثة.
السيناريو الثالث، هو إقامة دولة واحدة دعا البعض إلى أن تكون ديمقراطية علمانية تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين في بوتقة واحدة، وتحكمها أطر قانونية ودستورية باعتبارها الحل الأكثر ملاءمة لتسوية القضية الأطول في العالم. وفي رؤية هؤلاء، فإن سيناريو «الدولة الواحدة» سيتحقق آجلاً أم عاجلاً؛ بسبب عدم بروز مؤشرات في الأفق توحي بحلحلة الجمود الحالي في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، فضلاً عن وجود كتل المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية التي تجعل من فكرة إقامة دولة فلسطينية أمراً غير منطقي. لكن هذه التوجهات تواجه صعوبات كثيرة بدورها، أهمها إصرار التيارات المتطرفة داخل إسرائيل على ضرورة تطهير الدولة الإسرائيلية من أي عنصر غير يهودي، فضلاً عن معارضتها لمبدأ الديمقراطية العلمانية لاعتبارات ديموغرافية خاصة بغلبة العنصر العربي؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى سيطرة الأغلبية العربية على مقدرات هذه الدولة. هذا السيناريو في مجمله يواجه إشكالية مهمة وهي تحول القضية الفلسطينية من قضية «تحرر وطني» إلى قضية «تمييز عنصري»، وهو بالطبع ما سترفضه إسرائيل لأنه سيعرّضها إلى اتهامات بأنها نظام عنصري وسيدخل علاقاتها مع المجتمع الدولي مرحلة من التوتر.
السيناريو الرابع، يحاول الاستجابة لمطالب الطرفين الأساسية؛ الإسرائيلي في أن يوجد في دولة تكون الأغلبية فيها لليهود بشكل دائم، والفلسطيني في أن يكون له دولة مستقلة؛ من خلال دولة كونفدرالية تكون عاصمتها القدس وتحتوي كلٌ منها على المقيمين على أرض كل دولة. المواطنة هنا تكون لدولتين واحدة كونفدرالية والأخرى لإسرائيل وفلسطين حسب الإقامة الجغرافية.
السيناريو الخامس، يتماشى مع العصر الحالي بمقتربات زمن جديد لم يتطرق له أحد من قبل. وهذا حديث آخر.