هزّت أحداث تفجير الكنيستين في محافظتي الغربية والاسكندرية، وجدان كلّ عربي، بل هزّت وجدان كل انسان في العالم، وكنت أتمزق ألمًا وأنا أشاهد الدماء والاشلاء وهي تتدفق من الاطفال والنساء، وأشعر بالاختناق وأنا أتابع هلع وصيحات الأمهات وهي تنطلق في لوعة تمزق القلب. إن هذه المأساة بكل مشاهدها الدموية ستظل عارًا على العالم المتحضر كله لأنه يقف موقف المتفرج ولا يسعى الى انقاذ الضحايا والابرياء. لقد فجرت المأساة بركانًا من الألم واللوعة، حيث استهدف التفجير الأول كنيسة مار جرجس في مدينة طنطا والثاني الكنيسة المرقسية، المقر البابوي، في الاسكندرية.
تأملت هذه الكارثة التي تتكرر عودًا على بدء، وتساءلت كيف نوقف شلال الدم الموجه الى الكنائس في مصر المحروسة؟
ولا شك أن من أنجع الوسائل لمقاومة الإرهاب، هو غسل عقولنا وتنمية الإحساس بالقيمة الإنسانية، وتقديس الروح، والحرص على نعمة الحياة، ولن يتم ذلك إلا بخطط مرسومة تبث ثقافة حب الحياة والحرص عليها وعدم تبديدها في أوهام ومبادىء مزيفة وأهداف مريضة.
واذا حدث تكامل ناضج ومخطط بين الاعلام بكل مفرداته، والتربية والمناهج التعليمية فإن الاجيال ستتشرب مبادىء وأفكارًا وأخلاقيات تقدّر الحرية، وتغرس شعورًا قوامه حرمة الدم والبعد عن العنف.
ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة
لقد ثبت أن جميع الاحتياطات الأمنية القائمة على الحديد والنار، والنظريات التكنولوجية العسكرية التي تسخّر العلم والتطور لا تستطيع أن تحسم ظاهرة الارهاب، ولا تستطيع بصورة قاطعة أن تمنع نفرًا من الخارجين عن موازين العقل والادراك من الالقاء بأنفسهم الى التهلكة.
وللحقيقة أقول: ان المجتمع المصري على جانب كبير من الثقافة الإنسانية، والتعايش مع قبول الآخر، وأن ثقافته قادرة على محو أي فروق دينية، فهو لا ينهج في حياته وعمله أي نوع من التفرقة، لأن الأخوة بين أبناء المجتمع المصري تكاد تكون ظاهرة طبيعية كالماء والهواء، فهي حقيقة كانت عبر قرون من الزمن في مصر والدول العربية. وعندما تتأزم الأمور، وتندلع عمليات الاغتيال؛ فإن كمية الألم وعواصف الحزن والأسى تعصف بكل مواطن، بل بكل بيت وبكل مدرسة وكلية ومصنع وحارة وزقاق.
"تختلط الدموع وتتعانق الارواح وتتلاقى الجوارح.. ذلك أن المصائب تجمع المصابين" على حد تعبير الشاعر أحمد شوقي، وهذا التلاقي الجماهيري والتواصل الوجداني والالتحام الشعبي يؤكد فشل رهان اولئك الذين قاموا بالتفجيرات وخططوا لها.
النتائج عكسية ولا شك، فإن أرواح الشهداء والضحايا تتصاعد في سماء الاسكندرية وطنطا وكل منطقة في صعيد مصر او الدلتا، لتعبر عن التلاحم والحب والتواصل الوجداني الذي تترجم عنه الدموع والآلام في كل منطقة من مصر، حيث تتفاعل وتتواصل وتلتقي على قلب رجل واحد. ذلك بفعل ثقافة الشعب المصري ووعيه، ثقافة المودة والسلم والاخوة التي تتجلى في سلوك الاقباط، كما تتجلى في مشاعر المسلمين، حيث تربط بين الجار وأخيه ورفيق دربه.
إن ثقافة الأخوة والمواطنة، وبغضّ العنصرية وكراهية العنف وادراك حقيقة أهداف العدو، كل ذلك لن يؤدي الى حرب أهلية كما يحلم العدو ويخطط، وإن الاسرة المصرية في بيت واحد، فاذا شبَّت النار في أحد أركانه فإن سكان البيت سيتلاحمون ويتراحمون ويندفعون بقوة واصرار لاطفاء هذه النار لان الخطر الداهم يستهدف مصر، كل مصر، ولا سبيل الى التصدي للعدو لا بالالتحام والتوحد.
أصالة الشعب المصري وصموده
إن سجيّة الشعب المصري، بل والأمة العربية بأسرها تنظر الى مأساة الكنيستين في طنطا والاسكندرية في حجمهما الحقيقي، وتعلم أن التعامل مع هذه المأساة يكون بمزيد من التلاحم والحب والتواصل والتخطيط، ورغم تكرار هذه الأحداث المأساوية حسب أجندة متقاربة، الا أنها لن تشعل حربًا بين أبناء وادي النيل، كان ذلك منذ عهد الرئيس مبارك وحتى اليوم لان نسيج الشعب المصري يؤكد أنه شعب أصيل، قوي، صبور وعنيد ومثقف. لقد هزمته إسرائيل عام 1967.. ولكنه بعد ست سنوات فقط استعاد أرضه وشرفه وتاريخه ومجده، واستردت مصر آخر ذرة من تراب سيناء وغدت رفح مقسومة بميزان دقيق بين ما هو مصري محرر وما هو فلسطيني تحت مهاوي البطش الصهيوني.
هذه هي مصر التي نعرفها ونعايشها ونستقي منها الثقافة والفكر والوطنية والريادة.. مصر التي تعشق الفن والشعر والأدب والرياضة والعلم، قادرة دائمًا على أن تكون مصر الفداء والثورة والقوة والحرب، مصر التي عبرت خطوط "بارليف" ومعارك السويس وانتصرت في بورسعيد وحققت فصولاً رائعة في تاريخ النضال المعاصر. مصر الحضارة والريادة الممثلة في الحضارة الفرعونية والحضارة المصرية والحضارة القبطية، وأهدت الى العالم في كل فنون العلم، في الطب والاديان والنحت والنور والحقيقة بحثًا عن الخالق، وأهدت العالم التنوير. ويشهد بذلك المومياء والمباني الاثرية الرائعة في الأقصر، وتشييد الأهرامات معجزة كل القرون، كما أن الأزهر بتراثه العظيم ومفكريه وقادته مثل محمد عبده والشيخ شلتوت والشيخ الشعراوي، وكذلك جمال الدين الافغاني وعبدالرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي، وكل هؤلاء الرواد عمقوا ثقافة الفكر والتآخي ولا يعقل بأي حال من الاحوال أن يكون الأحفاد ورثوا كل ذلك ثم ينقلبون على أعقابهم الى حرب أهلية لا يمكن أن تقع في حال من الأحوال.
من هنا فإن اشعال نار الفتنة والرهان على حرب أهلية لن تكون. ولنا أن نتساءل: لماذا مصر؟ ولماذا استهداف المسيحيين المصريين والكنائس القبطية؟ ولماذا هذا العدوان في موسم الاعياد وفي ذروة ذكرى الآلام؟
لقد أطلتُ التفكير في هذه الحقيقة، وعدت أقلب صفحات الماضي القريب والبعيد فوجدت أن الرئيس السابق حسني مبارك استطاع أن يمتص كل حملات التطرف والعدوان والتفجيرات التي كانت تشن على الاهداف المصرية الشرطية والسياحية عبر مقاومة ذكية وارادة صلبة، وبذلك احتوى التوجهات الإسلامية وتم استئناسها واعادتها الى حجمها، فقد سمح لهم بالدعاية والنشر والعلم ودخول الانتخابات، وبعد أقل من سنوات انتهى كل شيء، وعادت فلول العدوان الى جحرها، ولم يعد السواح في صعيد مصر عرضة وهدفا للقنابل والخطف والاغتيالات، ومارست الشرطة عملها في جو ملائم وتحت ظلال الأمن والأمان.
وقبيل عهد مبارك تعامل الراحل أنور السادات مع الحركات الاسلامية والمتطرفين بطريقة دراماتيكية، لقد أطلق لهم العنان وشجعهم وأراد ان يحدث توازنا بين الحركات الاسلامية والخط القومي الثوري. هكذا كانت حساباته، وقد اخطأ في ذلك، لان هؤلاء الذين أطلق سراحهم هم الذين اغتالوه بيد خالد الاسلامبولي في حادثة المنصة وهو بين جنوده وأولاده، كما كان يقول.
لكن عهد السادات الذي استمر أحد عشر عامًا لم يشهد تفجيرا للكنائس المسيحية، ولم يشهد مذابح بهذه الروح الهمجية الدموية، ذلك ان الخط الاسلامي كان يحتكم الى المنطق والعقل في الحكم على أخوة الاقباط.
القائد عبدالفتاح السيسي على المحك
والآن يأتي القائد العسكري عبد الفتاح السيسي الذي كان رئيسًا للمخابرات والذي نال ثقة جميع المصريين. لا شك أنه قادر على حماية جميع المصريين وهو قادر على حماية المسيحيين، ليس لان الرئيس الاميركي دونالد ترامب شهد له وأقر بكفاءته وقدرته، ولكن لانني عندما أتأمل قسمات وجهه وأستمع الى كلماته وتخترق عيني صورته التي ترتسم على ملامحه أشعر بأنني أمام قائد من طراز الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، القائد الشجاع المسكون بحب الفقراء والبسطاء، عاشق تراب وطنه، محب لكل ذرة رمل منه، وهو يعرف قدره ويعرف قدر أمته ويعرف حجم التحديات، ويؤمن دائما بما كان يقوله الرئيس عبد الناصر ان "طعنة العدو تدمي الظهر، ولكن طعنة الصديق تدمي القلب والروح".
ولا شك عندي أن العدوان على الكنائس المسيحية موجه أولا وأخيرًا الى قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يحاول ان يجعل مصر قوية صلبة، وقد قطع شوطًا طويلا وبعيدًا في إعادة تأهيل وتحديث الجيش المصري، وهذا هو ما يرهب كل القوى العدوانية في المنطقة.
إن تفجير الكنائس في مصر محاولة لنسف التعايش، واشعال فتيل الحرب الاهلية الطائفية حيث تحاول قوى العدوان المتمسحة بالاسلام تفجير المنطقة واختراق الامن السلمي بين أبناء الشعب المصري. وتأتي التفجيرات الدموية التي استهدفت الكنائس في إطار مخططات التفتيت وزعزعة الاستقرار التي تجتاح المنطقة العربية حاليا، وتقف خلفها جهات عديدة وتنفذها بأدوات عربية في معظم الاحيان وتتبنى الفكر التكفيري المتشدد، والمنطق التاريخي يقول: اذا "أردت ان تدمر بلدًا وتغرقها في الحروب وتغرق شعبها في الفقر والحرمان، فما عليك الا بثُّ الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، وقتل روح التسامح والتعايش".
ثقافة التسامح والأخوَّة الاسلامية – المسيحية
من المواقف التي تترجم ثقافة التسامح بين المسيحية والاسلام موقف فارس الخوري رئيس الوزراء السوري الذي كان يؤمن بالتسامح الاسلامي، وكان يؤمن بأن الاسلام هو الحل الصحيح للقضاء على الشيوعية وعلى الافكار الاستعمارية، ومما يروى عنه انه وهو المسيحي الدمشقي كان رئيسًا لوزراء دولة مسلمة، وكان وزيرًا للاوقاف، وذات يوم أبلغه الجنرال غورو الذي احتل سورية ان فرنسا جاءت الى سورية لحماية مسيحيي الشرق، فما كان منه الا ان قصد الى الجامع الاموي في يوم جمعة، وصعد الى منبره وقال: "اذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد ان لا إله إلا الله".. فأقبل عليه مصلو الجامع الاموي، وحملوه على الاكتاف وخرجوا به الى احياء دمشق القديمة في مشهد وطني تذكرته دمشق طويلا، وخرج أهالي دمشق المسيحيون يومها في مظاهرات حاشدة ملأت دمشق وهم يهتفون لا اله الا الله.. لقد كانوا مسلمين ومسيحيين ابناء هذا الوطن، ولم يخضعوا للمؤامرات والمخابرات والمتآمرين.
وكم هو ضروري أن ندرك أن الكارثة ليست من الدين وانما من معايير تديّن قلبت الدين من رحمة الى قسوة، ومن نعمة الى شقاء، ومن دواء الى سم زعاف، ومن عامل تضامن وتكامل الى عامل تفسخ وتفكيك، ومن حكمة الى هستيريا جماعية. ولذلك علينا أن نحذر من نشر الافكار اليمينية المتطرفة. وأستذكر هنا ان الشعب المصري كان في ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول كان وحدة واحدة، وكانت المظاهرات تنطلق من المساجد والكنائس في وقت واحد، وأذكر ان الامام علي رضي الله عنه قد أوصى والي مصر بحماية جميع المواطنين بدون تمييز وقال في رسالة له: "لا تكن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخَلق". كما نستذكر هنا العهدة العمرية التي اعطاها عمر بن الخطاب لأهل ايليا أي القدس، وفيها ضمن لهم أرواحهم وأموالهم وحياتهم وحقهم في العبادة بل أنه رفض ان يقيم الصلاة في كنيسة القيامة حتى لا يأتي المسلمون ويبنوا مسجدًا في المكان الذي صلى فيه.
واستذكر موقف عمرو بن العاص حين دخل مصر واستقبله الاقباط بكل حفاوة. فقد وقف الاقباط مع المسلمين ضد الرومان واستقبلوا عمرو. كما أستذكر هنا ان مكرم عبيد من زعماء "حزب الوفد" كان قبطيا وداعية الى الاخاء.
ومن المواقف التي لا أزال أذكرها أن الشاعر كمال ناصر عندما شاهد جنازة غسان كنفاني أخذته الغيرة وقال: "أتمنى أن احظى بجنازة مناسبة عندما أموت"، وأوصى أن يدفنوه إلى جانب غسان كنفاني، وهكذا دفن كمال ناصر المسيحي الفلسطيني ابن بيرزيت في مقبرة الشهداء الإسلامية.
والاسلام مشهود تاريخيًا بموقفه الودي والاخوي ليس فقط من المسيحيين بل ومن اليهود أيضا. فهو يعتبر المسيحيين واليهود أهل ذمة. وهذه مكانة رفيعة تنطوي على الاحترام والقبول والحماية والتواصل الديني.
على أرضها طبع المسيح قدماً
ومن المواقف التي لا أنساها انه في أعقاب حرب 1967 التقى الفنان الراحل عبدالحليم حافظ والشاعر عبدالرحمن الأبنودي والملحن بليغ حمدي، في إعداد اغنية على لسان ابناء بيت لحم وعنوانها "المسيح" وتتحدث عن القدس بأسلوب رائع مؤثر وأداء يتميز بالحساسية والتعبير الراقي الذي تعودنا عليه من عبدالحليم حافظ، حيث وقف على مسرح "البرت هول" أكبر وأعرق مسارح لندن وكان المسرح يغصُّ بالجمهور، ويومها تلقى عبدالحليم تهديداً من "الموساد" الاسرائيلي بنسف المسرح، ولكنه صمم على إقامة الحفل وأنشد بصوت هز مشاعر الجماهير وهو يترنم بأغنية "المسيح" الذي ولد في بيت لحم والذي طبع على أرض القدس أقدامه حيث يقول:
يا كلمتي لفي ولفي الدنيا طولها وعرضها
وفتحي عيون البشر للي حصل على أرضها
على أرضها طبع المسيح قدم
على أرضها نزف المسيح ألم
في القدس في طريق الآلام
وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس في الخلا صبح الوجود انجيل
تفضل تضيع فيك الحقوق لامتى يا وطني
وينطفي النور في الضمير
وتنطفي نجوم السلام
ولامتى فيك يمشي جريح
ولامتى فيك يفضل يصيح
مسيح ورا مسيح ورا مسيح
على أرضها
تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
دلوقت ياقدس ابنك زي المسيح غريب غريب
تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
خانوه... خانوه نفس اليهود
ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود ..على أرضها
كم هو محزن ومؤثر ان مأساة الكنيستين في طنطا والاسكندرية قد حدثت في الجمعة الحزينة يوم الآلام الذي عبر عنها بروعة صوت عبدالحليم وغنائه المليء بالشجن والحزن في أسبوع الآلام..