تستحق المقالة المفاجئة التي نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” الامريكية مساء الجمعة للسيد لبيب النحاس مسؤول العلاقات الخارجية في حركة “احرار الشام” الاسلامية السورية، الكثير من التأمل، ليس في مضمونها فقط، وانما في معانيها وتوقيتها ايضا.
فان تفتح الصحيفة الامريكية المحافظة صدر صفحاتها للسيد النحاس الذي يمثل هذه الحركة المقربة من تنظيم “القاعدة” الموضوعة على قائمة “الارهاب” الامريكية، فهذا يشكل تحولا مهما في النظرة الامريكية لهذه المنظمة، وربما شريكتها وحليفتها وجبهة “النصرة”، في الحرب التي تخوضانها سويا في سورية لاطاحة النظام في دمشق.
السيد النحاس وجه في المقال انتقادات قوية لاستراتيجية الادارة الامريكية في سورية، ووصفها بأنها “فاشلة تماما” لانها تعكس حرصا على عدم تقديم اي دعم للمجموعات الاسلامية المتشددة، وتشديدها على تقديم هذا الدعم للتنظيمات “المعتدلة” وحدها، واعتبر ان حركة احرار الشام “اتهمت زورا” بقربها من تنظيم “القاعدة”، ووجهت اليها اتهامات “ظالمة” من قبل ادارة الرئيس باراك اوباما.
***
هذه الانتقادات توحي بأن السيد النحاس يريد من الادارة الامريكية تغيير هذه الاستراتيجية كليا، وتقديم الدعم المالي والتسليحي لحركته، واسقاط كل الاتهامات التي توجهها اليها بقربها من تنظيم “القاعدة”، وهذا التوجه يعكس “انقلابا” في ايديولويجية هذه الحركة الاسلامية، وربما ايديولوجية جبهة “النصرة”، حليفتها الاساسية، تجاه الولايات المتحدة الامريكية التي يعتبرها تنظيم “القاعدة” العدو الاول للمسلمين، بسبب دعمها لاسرائيل وحروبها (اي امريكا) التدميرية في المنطقة، واحتلالها للعراق.
مثلما توحي هذه المقالة وصاحبها، باستعداد حركة “احرار الشام” بالتحالف مع الولايات المتحدة في حربها ضد “الدولة الاسلامية” للقضاء عليها، ففي فقرة مهمة منها، اي المقالة، يقول السيد النحاس، ونحن ننقل حرفيا، “ان على الادارة الامريكية القبول بأن الايديولوجية المتطرفة لتنظيم “الدولة الاسلامية” لن تهزم الا ببديل سني محلي مع توصيف معتدل يحدده السوريون انفسهم، وليس وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية”.
ان هذه المقالة على درجة كبيرة من الاهمية لانها تمهد لتحالف استراتيجي بين حركة احرار الشام الاسلامية، وجبهة النصرة من ناحية، والولايات المتحدة الامريكية من الناحية الاخرى، ان لم يكن هذا التحالف قد قام فعلا، لشن الحرب على “الدولة الاسلامية” والنظام السوري معا.
ويذكر ان التنظيمين، احرار الشام، وجبهة النصرة اندمجا عملياتيا، وشكلا “جيش الفتح” وادى هذا الاندماج المدعوم من التحالف الثلاثي السعودي التركي القطري الى الاستيلاء على مدينتي ادلب وجسر الشغور في الشمال الغربي لسورية، والاقتراب من عرين النظام في اللاذقية والساحل الشمالي، كما نجح جيش الفتح الثاني في الجنوب في الاستيلاء على مناطق عديدة في درعا، وكاد ان يستولي على جبل العرب والسويداء معقل الموحدين (الدروز).
مقالة السيد النحاس تعيد تذكيرنا بمقالة مماثلة نشرها السيد بسام ابو شريف مستشار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في صحيفة “نيويورك تايمز″ عام 1988، واعرب فيها عن استعداد منظمة التحرير للقبول بحل الدولتين والاعتراف باسرائيل بالتالي من خلال اعترافها بجميع قرارات الامم المتحدة، بما فيها قرار مجلس الامن رقم 242، وشكلت هذه المقالة بداية تحول خطير في سياسة المنظمة وايديولوجيتها ادت الى اتفاقات اوسلو في نهاية المطاف.
المقارنة ربما لا تكون دقيقة بين مقالتي السيدين النحاس وابو شريف، ولكن من الواضح ان السيد النحاس، ونشر صحيفة “نيويورك تايمز″ لمقالته، وما تضمنتها من تلميحات، او حتى تصريحات، لم يكن من قبيل الصدفة مطلقا، وان هناك “امرا ما” سياسي يتم التمهيد له اعلاميا، وان وراء الاكمة ما وراءها.
اقدام السلطات التركية على حملة اعتقالات مكثفة لعناصر تابعة لتنظيم “الدولة الاسلامية” قبل يومين في عدة مدن تركية، ونشر تقارير عن اتفاق امريكي تركي ابرز بنوده دخول تركيا الحرب بقوة ضد التنظيم المذكور بعد زيارة جو بايدن نائب الرئيس الامريكي لانقرة، وكذلك زيارة اخرى للجنرال جون آلن، مستشار الرئيس الامريكي العسكري في الملفين السوري والعراقي، كلها تؤشر على ان الحرب على تنظيم الدولة، وتشكيل “قوات صحوات” قد بدأتا وبشكل جدي، ولهذا يجب عدم اخذ مقابلة قناة “الجزيرة” التي اجراها السيد احمد منصور مع زعيم جبهة النصرة السيد ابو محمد الجولاني، ثم مقابلته لاحقا مع الطيار السوري الاسير لدى الجبهة علي عبود بمعزل عن هذه التطورات.
***
امريكا تعترف تدريجيا بالتحالف الجديد بين “جبهة النصرة” و”احرار الشام” كرأس حربة في الحرب على تنظيم “الدولة” والنظام السوري معا، لن نستبعد ان يتم ازالة اسمي التنظيمين الاسلاميين (النصرة والاحرار) من قائمة الارهاب الامريكية قريبا جدا، ضمنيا او علنيا، مثلما لا نستبعد، او نستغرب، ان يبدأ جيش الفتح الذي يشكل نواة عسكرية لوحدة التنظيمين معركته الكبرى لاقامة “امارة حلب” المستقلة كأول منطقة للحظر الجوي كمكافأة لتركيا على الانضمام بجدية للحلف الجديد ضد “الدولة الاسلامية”.
هذا التحرك يعني ان التحالف الرباعي الذي اقترحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويضم تركيا والسعودية والاردن، الى جانب سورية الاسد، جرى وأده عمليا من قبل تحالف امريكي مضاد، يستثني النظام السوري، ويتولى مسؤولية الحرب لتصفية “الدولة الاسلامية”.
كيف سيكون رد موسكو والرئيس بوتين على اجهاض هذا التحالف الرباعي، واحتضان واشنطن لتنظيمات اسلامية قريبة من “القاعدة” ايديولوجيا؟
هذا ما ستجيب عنه الايام، او الاسابيع المقبلة.