بقلم - مصطفى فحص
منذ «انتفاضة 1 أكتوبر (تشرين الأول)»، مروراً باغتيال الجنرال قاسم سليماني، ووصولاً إلى تكليف مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة، تواجه طهران استحالة في إعادة ترميم علاقتها مع العراقيين دولةً وشعباً؛ فعلى المستوى الشعبي، أدَّى الفرز السياسي والعقائدي بعد الانتفاضة إلى حصر حضورها في الأحزاب الإسلامية الشيعية المسلحة، التي خرجت من رحم البيت السياسي الشيعي الذي تساقطت جدرانه بعد مقتل سادنه. أما على المستوى الرسمي، فما نودي باسم الكاظمي إلا نتيجة لمعادلة سياسية جديدة فرضتها بدرجة أولى «انتفاضة تشرين»، وبدرجة ثانية تصدع البيت السياسي الشيعي وتراجع قدرته على السيطرة على قاطنيه المصابين بعقم سياسي لم يسمح بإنجاب وريث، فأرغمت طهران على القبول مكرهة بانتقال السلطة من بيت فقد شرعيته الوطنية والسياسية إلى مصطفى الكاظمي بوصفه حلاً وسطاً في مرحلة يصارع فيها القديم من أجل البقاء، فيما الجديد لا يزال في مرحلة التشكل.
عوارض المرض والترهل التي أصابت البيت السياسي الشيعي في العراق، انتقلت عدواها إلى بيت القرار الإيراني في طهران، فالعراقيون الذين اعتادوا التعامل منذ 17 سنة مع وجه واحد، باتوا الآن يتعاملون مع وجوه عدة لكل منها رؤيته وتقديراته وحساباته الداخلية والخارجية. منذ سنة لم تعد علاقة طهران - بغداد محصورة في طرف واحد يستحوذ على القرارات كافة؛ فالوكالة السياسية العامة التي أعطيت سابقاً لـ«فيلق القدس» باتت محصورة فقط في القوى الولائية المنسجمة عقائدياً مع طهران، فيما دخل إلى الساحة العراقية لاعبون جدد حرم عليهم سابقاً التدخل في الشأن العراقي. هذه الأطراف الجديدة الباحثة عن دور وموقع، اختارت استثمار الفرز الداخلي العراقي والتعامل مع العراق الرسمي.
لم تكن علاقة طهران - بغداد تخضع للأعراف الإيرانية في تعاملها مع المجتمع الدولي الذي تعايش مع طبيعتين: الثورة، والدولة، فيما العراق كان تحت تأثير الجناح الثوري الذي أعاق قيام علاقة طبيعية بين الدولتين، كما أنه كان السبب الرئيسي في عرقلة قيام دولة عراقية قوية سيادية، إلا أنَّ هذه المعادلة تراجعت مع تراجع الدور الإيراني ومقتل سليماني، وظهرت عوارضها إلى العلن من خلال تخبط بيت القرار الإيراني في التعامل مع البيوتات السياسية العراقية وفي التعامل مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي بات بدوره يستغل تعدد الآراء الرسمية الإيرانية وعدم الانسجام في طروحاتها وأهدافها لتخفيف الضغط عن حكومته.
أزمة الثقة ما بين الراديكاليين الإيرانيين والكاظمي كبيرة، فبعضهم عاد واتهمه بالضلوع في اغتيال سليماني، وبأنَّ توجهاته السياسية والاقتصادية لا تراعي المصالح الإيرانية، لذلك لم يترددوا في الدعوة إلى إسقاطه، لكنهم لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا، لأسباب كثيرة؛ أهمها أنَّهم لا يملكون أغلبية دستورية في البرلمان العراقي قادرة على حجب الثقة عن حكومته، وليس بوسعهم تحريك الشارع بسبب تراجع شعبية الأحزاب الموالية لهم وتقلص حجم البيئة الحاضنة للقوى الولائية إلى أدنى مستوياته، كما أنَّه من المستحيل اللجوء إلى الصدام المسلح في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب ولا يبدو ممكناً مع إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن، وليس بإمكانها أن تحصل على غطاء شعبي وروحي في وجه القوات المسلحة العراقية التي تبدو أكثر انسجاماً.
مما لا شك فيه أن التخبط في سياسات الجناح الراديكالي، دفع بمراكز صنع القرار الإيرانية الأخرى إلى انتهاز هذه الفرصة بهدف قطع الطريق على الجنرال قاآني وفريقه في الاستحواذ مجدداً على القرار العراقي، واستغلال ضعف شخصية قاآني وقلة خبرته، وتشتت قرار أتباعه في العراق بهدف الحصول على موطئ قدم ثابت في الساحة العراقية، لكنه لم يعد متوفراً هذه المرة إلا عبر الجهات الرسمية التي يمثلها الكاظمي.
من الممكن القول إنَّ الكاظمي معضلة إيرانية لا يمكن معالجتها، فصناع القرار العراقي داخل البيت الإيراني يعانون من انقسام في تقييمه وفي كيفية التعامل معه، فبعضهم يريد مسك العصا من المنتصف معه، فيما بعضهم الآخر يدعو إلى ليّ ذراعه في هذه المرحلة إلى أنَّ تتوفر فرص إسقاطه، وبين هذا وذاك لا تبدو الفرصة الإيرانية متوفرة، ليس لأنَّ العراق أقوى؛ بل لأنَّ إيران أضعف مما سبق.