الأيديولوجيا العرجاء

الأيديولوجيا العرجاء

الأيديولوجيا العرجاء

 السعودية اليوم -

الأيديولوجيا العرجاء

بقلم : عمرو الشوبكي

فى تاريخ النظم السياسية الحديثة، هناك دائما نظم حملت رسالة عقائدية أو سياسية محددة، وكثير منها فشل وبعضها نجح، ومع التحول الذى أصاب العالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتى وسقوط النظم الشيوعية، أصبحت هناك إعادة تعريف للأيديولوجيا وشكل النظم السياسية، اختلف عن النمط الذى ساد فى القرنين الـ19 والـ20.

فقد فشلت وتراجعت نظم الحصانة الثورية، التى ادَّعت أنها تحمل عقيدة سياسية فوق النقد مثلما جرى مع الماركسية الحاكمة فى نظم كثيرة حين اعتبرت أنها صاحبة حصانة خاصة لكونها تعبر عن الطبقة العاملة، فأَمَّمت مع الشركات والمؤسسات المالية المجال العام والسياسى، وأصبح هناك حزب شيوعى واحد يحكم ولا يقبل بمعارضة ولا تداول السلطة.

واستنسخت مشاريع أيديولوجية أخرى أعطت لنفسها أشكالاً مختلفة من الحصانة، فهناك الحصانة القومية للنظم البعثية فى العراق وسوريا، وهناك الحصانة الدينية التى أعطتها نظم حكمت باسم الدين فى أكثر من بلد عربى وإسلامى، وهناك تنظيمات دينية تصورت أنها جماعة ربانية لا يأتيها الباطل وصاحبة الحق المطلق، وكانت جميعها وبالاً على المنطقة وشعوبها.

و«دارت الأيام» واختفت نظم الحصانة الشيوعية، وحلت مكانها نظم اشتراكية ديمقراطية تحكم بالديمقراطية ودولة القانون، وظلت نظم الحصانة الدينية تقاوم فى أكثر من بلد عربى وإسلامى من أجل الاستمرار، رغم إرادة شعوبها، وإن كان قد ظهرت معها أحزاب سياسية امتلكت مرجعية مرتبطة بالإسلام، ولكنها احترمت حتى الآن قواعد الديمقراطية كما فى تونس والمغرب.

وظهرت موجة جديدة حاملة أيديولوجية جديدة، وهى تيارات وأحزاب الوطنية المتشددة أو اليمين المتطرف كما يصفه الكثيرون، فظهرت فى أوروبا باعتبارها مصدر خطر يجب مقاطعتها وحصارها، وكان خطاب الحزب الشيوعى الفرنسى طوال السبعينيات حتى نهاية التسعينيات قائماً على مقاطعة اليمين المتطرف، وأذكر أن كثيراً من أصدقائى اليساريين من زملاء الدراسة فى ذلك الوقت كانوا يطالبون علناً بمقاطعة اليمين المتطرف وعدم الحوار مع ممثليه، باعتبارهم نواة للفاشية والعنصرية والكراهية، ورددوا خطابا شبيها تماما بخطاب الحركة الوطنية المصرية فى رفض التطبيع مع إسرائيل.

وكان جزء من تمايز اليمين الديجولى فى فرنسا هو فى بُعده عن خطاب اليمين المتطرف، إلى أن جاء الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى وتبنى خطابا قريبا فى كثير من جوانبه من خطاب اليمين المتطرف، وسيستكمل مسيرته «إذا شاء الله» رئيس وزرائه، فيون، مرشح اليمين فى الانتخابات القادمة، بخطاب أكثر يمينية من سابقه.

وجاء فوز ترامب فى أمريكا ليعطى دفعة قوية لهذه الأيديولوجيا، فقد وصفته مجلة فورين بوليسى الشهيرة بأنه «أصبح موضة عالمية»، واعتبرت أن هناك طبعات مختلفة لليمين الوطنى فى العالم، فهناك قوى اليمين المتطرف فى أوروبا وأمريكا، وهناك السيسى فى مصر، وهناك رئيس الفلبين، رودريجو دوتيرتى، ورجب طيب أردوغان فى تركيا، كما وُضعت نتائج الاستفتاء على الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى (Brexit) مؤشرا على عمق تأثير خطاب اليمين المتطرف فى العالم كله.

الفارق بين أيديولوجيا اليمين المتشدد الصاعد فى أوروبا، والحاكم فى أمريكا، أنه تم عبر مشروع سياسى فى بلاد ديمقراطية بها مؤسسات راسخة وقوية، ففى أمريكا وصل ترامب للسلطة بطريقة ديمقراطية وعبر انتخابات حرة تنافس فيها الحزبان التقليديان الجمهورى والديمقراطى، واستُخدمت فيها الأدوات السياسية المعروفة للوصول للسلطة، أى حزب سياسى وانتخابات ديمقراطية.

ورغم أن الأيديولوجيا السائدة فى مصر تتقاطع مع حالة عالمية متصاعدة، تؤكد على الوطنية ورفض العولمة، وتتبنى شعارات متشددة فى مواجهة الإرهاب، وتركز فقط على الحلول الأمنية والعسكرية، إلا أن الفارق الأساسى الذى يفصل بين ما يجرى فى مصر وباقى دول العالم- التى تنتمى لنفس المدرسة الوطنية المتشددة- هو فى مستوى الأداء والكفاءة وغياب الأدوات السياسية الحديثة فى إدارة الحكم.

فالتحدى الأساسى الذى تواجهه مصر ليس أساساً فى شعارات النسق الأيديولوجى الحاكم، المتكررة بصور مختلفة فى العالم أجمع، إنما فى عدم قدرة هذا النسق على إصلاح أى مؤسسة فى مصر، حتى أصبحنا أمام شعارات سياسية مُحَلِّقة فى الهواء دون ظهير شعبى قادر على الاختيار الحر بين بدائل مختلفة وليس بديلاً واحداً مفروضاً.

فى بلد أزمته الأولى فى سوء وضعه الاقتصادى، وانسداد أفقه السياسى، وترهل مؤسساته وانعدام كفاءتها، تصبح الشعارات الوطنية مجرد هتافات مادامت غير قادرة على إنجاز أى إصلاح مؤسسى حقيقى، على عكس أيديولوجيا اليمين المتطرف، التى وصلت للسلطة عبر عملية ديمقراطية مستقرة لا تستطيع أن تغير قواعدها، وتعمل مؤسساتها بكفاءة، والمطلوب تطويرها ومواكبتها للعصر والعلم، لا أن يُعاد بناؤها من جديد وإصلاحها جراحيا كما هو مطلوب فى بلادنا.

إذا اعتبرنا ما يُردَّد فى مصر من شعارات سياسية هو جزء من أيديولوجيا عالمية، فإن ما يجرى عندنا يمكن وصفه بـ«الأيديولوجيا العرجاء»، لأنها بلا ظهير سياسى ولا أدوات سياسية، وغير حريصة على إصلاح المؤسسات، ولا تستطيع مثل أمريكا أن تنعزل عن العالم لأنها لا تحكم دولة عظمى، ولن تنجح حين تقول للعالم: أنتم تتآمرون علينا، وفى نفس الوقت تتحايل عليهم للاستثمار والسياحة، فنخسر الاثنين بسبب خطابنا السياسى.

لم تبْنِ الأيديولوجيا العرجاء أو المُحصنة وطناً، وعلينا أن نعرف أوجه القصور فى بنية ما نقوله من شعارات سياسية، لنعرف أن أزماتنا- التى نتصور أنها أزمة حكومة أو مسؤول فاشل- أعمق بكثير، وتتعلق بنسق من الشعارات السياسية يحتاج إلى تغيير جذرى.

arabstoday

GMT 15:55 2024 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

ماذا بعد انتهاء الحرب؟!

GMT 08:55 2024 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

الاعتدال الفاعل

GMT 18:48 2023 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

تصريحات نتنياهو

GMT 17:18 2023 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

عودة للحروب الوطنية

GMT 08:40 2023 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

دروس من أفغانستان والعراق لغزة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأيديولوجيا العرجاء الأيديولوجيا العرجاء



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:19 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

حظك اليوم برج الأسد الخميس 7 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 18:13 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

حمدي فتحي يسجل أول أهداف مصر في شباك بوتسوانا

GMT 11:25 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

عسيري يؤكد أن الاتحاد قدم مباراة كبيرة امام الهلال

GMT 00:28 2018 الخميس ,05 تموز / يوليو

كروم 67 يدعم تطبيقات الويب المتجاوبة

GMT 15:41 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

سترة الجلد تناسب جميع الأوقات لإطلالات متنوعة

GMT 14:57 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

كليب Despacito يحقق مليار ونصف مشاهدة على اليوتيوب

GMT 18:27 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

العثور على معدات صيد في الدار البيضاء لرجل اختفى عن الأنظار

GMT 21:15 2017 الأربعاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة الدحيل والريان تحظى بنصيب الأسد من العقوبات

GMT 08:17 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

الكويت تجدد سعيها لحل الخلافات العربية مع قطر

GMT 02:26 2017 الجمعة ,14 تموز / يوليو

نادي نابولي الإيطالي يكشف عن بديل بيبي رينا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab