الإسلام والخصوصية الحضارية 13

الإسلام والخصوصية الحضارية (1-3)

الإسلام والخصوصية الحضارية (1-3)

 السعودية اليوم -

الإسلام والخصوصية الحضارية 13

عمار علي حسن

طرح فكرة «الخصوصية» الآن فى وجه «العولمة» لا يعنى الانغلاق المريض على الذات أو الشعور الزائف بالاكتفاء. ليست أمراً جديداً، وليست حيلة دفاعية من أجل الذود عن «الهوية» أو «الذات الحضارية» بقدر ما هى حاجة أصيلة إلى التميز، ورفض قاطع لتماهى الذات فى الآخر، أو مسخ النفس لحساب الغير، أو الاكتفاء بالتقليد، والرضا بالعيش فى الهامش البارد، دون أى طموح للتفاعل الخلاق مع العالم، من أدناه إلى أقصاه.

وقد برهن التاريخ على أن مسألة فرض الثقافات بالقوة قد ثبت فشلها، ولنا فى تجربة الاتحاد السوفيتى السابق بالقرم والقوقاز وآسيا الوسطى عبرة وعظة. والمزاوجة بين غطرسة القوة المفرطة وتسريب القيم لم يفلح هو أيضاً فى إزاحة الثقافات المحلية أو التعمية عليها، والتجربة الأمريكية الراهنة تقدم شاهداً جلياً ودليلاً دامغاً على هذا. وحتى لو كان هذا ممكناً فى حقب زمنية قديمة، فإنه لم يعد مستساغاً مع إدراك الشعوب لحقوقها، ووعيها بثقافتها، وتمسكها بجذورها الحضارية. أما التغيير الطوعى والتدريجى الذى يمكن أن تُحدثه الدعوات والتبشير الدينى، أو الاحتكاك الطويل بالمجتمعات الأخرى، فهو الأكثر وقعاً وتأثيراً فى هذا المضمار، وهذه مسألة تختارها الشعوب بمحض إرادتها، وقد تعززت فرصها مع ثورة الاتصالات الرهيبة.

واحتفاظ كل حضارة بخصوصيتها من شأنه أن يعزز التنوع الثقافى الخلاق الذى يُعد مسألة حيوية وضرورية لقيام حياة إنسانية صحية وثرية وممتعة فى الوقت نفسه. فالسعى إلى تذويب العالم فى نمط ثقافى واحد، تحت أى ذريعة، هو قفزة فى الفراغ، أو خطوات إلى الوراء. ورغم أن هذا غير ممكن من الناحية العملية، فإن أى جهود تُبذل بغية الاقتراب من تحقيق هذا الهدف ستترك تشوهات على الحياة الإنسانية، وتحول البشر إلى أشياء رخيصة، أو سلع متكررة، وتقلص فرص الحوار البناء بين أبناء الحضارات المختلفين فى الثقافات والتوجهات والرؤى، ومن قبل ذلك الجذور.

لكن الخصوصية ليست فكرة متفقاً عليها، فرغم أصالتها وحيويتها فإن مساحة الحركة داخلها شاسعة إلى حد التناقض التام بين معتنقيها أو المنافحين عنها المتحمسين لها، وبين رافضيها جملة وتفصيلاً ممن يؤمنون بأن العالم صار «قرية كونية» من الضرورى أن يذوب الجميع فيها، ليس فى مجال التقنيات فحسب، بل أيضاً فى فضاء القيم والمعانى الإنسانية.

والأكثر إثارة للجدل أن المؤمنين بالخصوصية ليسوا على عقل وقلب رجل واحد فى التعامل معها، بل إن بينهم أيضاً اختلافات تصل إلى حافة التناقض فى بعض الأحيان. فهناك من يتعامل مع المسألة بصرامة وحدّة، إذ لا يريد أن يتفاعل أو يستفيد مما لدى الآخر، وإن وجد نفسه منساقاً بحكم الواقع إلى الاستعانة أو الاسترشاد بما لدى «الغرب» مثلاً، فلا يعدو هذا بالنسبة له أن يكون «بضاعتنا وقد رُدت إلينا»، فى إحالة إلى العطاء الغزير الذى منحته الحضارة الإسلامية فى أيامها الزاهرة إلى الغرب.

وعلى الطرف الآخر، هناك من يؤمن بتلاقح الحضارات، ويعتقد اعتقاداً راسخاً فى أن المسلمين بحاجة ماسة إلى الاستفادة مما لدى الآخرين من عطاء فى مختلف المجالات، التقنية والإنسانية، باعتبار «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها».

على هذين الطريقين يقف الخطاب الإسلامى بشتى أطيافه من فكرة الخصوصية، موزعاً بين اتجاهين، الأول يتمثل فى نظرة رحبة للخصوصية، لا ترى أى غضاضة فى المزاوجة بين ما لدينا وما يأتينا من الخارج، بشرط أن تكون النسبة الغالبة مما هو عندنا، وأن يشكل هذا القاعدة التى نبنى فوقها، والجدار الذى نستند عليه. أما الثانى فينظر إليها باعتبارها نهجاً مكتفياً بذاته، لديه اكتمال نظرى، وقدرة على تلبية كل ما يتطلبه الواقع من حلول للمشكلات التى تفرض نفسها، آنياً ومستقبلياً.

ومن ثم يسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى بناء أطر نظرية وعملية تلبى احتياجات الواقع، ويأملون بها أن يرمموا الشروخ الواسعة التى حدثت نتيجة ما يسمونه بالتغريب، أو الابتعاد عن الإسلام. وأنتجت عملية البناء والترميم هذه رؤى عريضة لأسلمة شتى دروب الحياة. فهناك «الاقتصاد الإسلامى» و«القانون الإسلامى»، وهناك «إسلامية المعرفة» ومحاولة لبناء «علم اجتماع إسلامى» و«علم سياسة شرعى» فى جوانبه النظرية والإجرائية، و«علاقات دولية إسلامية»، و«فن إسلامى»، ونزولاً من هذه التصورات الكلية والأساسية هناك محاولة لأسلمة تفاصيل صغيرة جداً فى الحياة اليومية للفرد، مثل المأكل والمشرب والملبس وطرق الترفيه ونبرة الكلام والضحك، وما يجرى فى المناسبات الاجتماعية كافة، وفى مقدمتها حفلات الزفاف والمآتم... إلخ، بل وصل الأمر إلى تحدث بعض السيدات عن «الريجيم الإسلامى».

(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).

arabstoday

GMT 15:09 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

ابنه البكر

GMT 15:08 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

... إنّها حرب تطالبنا بأن ننسى كلّ شيء تقريباً

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

المشعوذون القدامى... والجُدد

GMT 15:04 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الدول العربية «المضروبة»

GMT 15:03 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

حانت لحظة الرحيل

GMT 15:02 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الأسئلة الصعبة

GMT 15:01 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

من غزو العراق... إلى حرب غزّة

GMT 15:00 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

عن رسالة بوريل ومستقبل أوروبا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإسلام والخصوصية الحضارية 13 الإسلام والخصوصية الحضارية 13



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:19 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

حظك اليوم برج الأسد الخميس 7 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 18:13 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

حمدي فتحي يسجل أول أهداف مصر في شباك بوتسوانا

GMT 11:25 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

عسيري يؤكد أن الاتحاد قدم مباراة كبيرة امام الهلال

GMT 00:28 2018 الخميس ,05 تموز / يوليو

كروم 67 يدعم تطبيقات الويب المتجاوبة

GMT 15:41 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

سترة الجلد تناسب جميع الأوقات لإطلالات متنوعة

GMT 14:57 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

كليب Despacito يحقق مليار ونصف مشاهدة على اليوتيوب

GMT 18:27 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

العثور على معدات صيد في الدار البيضاء لرجل اختفى عن الأنظار

GMT 21:15 2017 الأربعاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة الدحيل والريان تحظى بنصيب الأسد من العقوبات

GMT 08:17 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

الكويت تجدد سعيها لحل الخلافات العربية مع قطر

GMT 02:26 2017 الجمعة ,14 تموز / يوليو

نادي نابولي الإيطالي يكشف عن بديل بيبي رينا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab