بقلم - يونس الخراشي
لوطن لا يعوض. حين يكون وطنا بالطبع. والدليل أن ذلك الشاب المقدسي الأصل، اللبناني الحياة والجنسية، قال لي، ونحن نجلس جنبا إلى جنب، بالمركز الإعلامي الفسيح لملعب كالينينغراد، في انتظار مروري المباشر عبر قناة "رويا اليوم"، إنه الآن في وطنه.
لا أنسى تلك الكلمات. ليس هذا فحسب. بل لا أنسى كيف قالها إبراهيم سيد. استخرج نفسها من القلب. من مكان عميق في كيانه. وخرجت دافئة للغاية. صادقة جدا. على مهل. واثقة. وسمعتها تستقر في قلبي أيضا، أشبه ما تكون بصوت عبد المجيد مجذوب في مسلسل "عازف الليل". قال لي:"أحب روسيا".
استغرق في الصمت للحظات. بدا لي شاميا بحق. تائها في ماضيه وهو يجلس إلى عرب مثله. وأنى لعربي وهو يجالس عربيا مثله أن يشعر بالفرح؟ فما يجلس عربيان في بلد بعيد إلا ليبكيان شيئا مفتقدا.
بعض قسماته ذكرتني، حينها، بغسان كنفاني. الذقن الحليق. الصلع الخفيف في الجانبين. الأنف البارز. أما وهو يواصل الحكي عن مسيرته ومساره، فقد استعدت، تلك الجملة الرائعة لإبراهيم جبرا، في رواية "السفينة": "كل الفلسطينيين شعراء بالفطرة. ذلك أنهم عرفوا شيئين اثنين، المأساة وجمال الطبيعة. ومن يعرف هذين لا بد أن يكون شاعرا".
قال إنه جاء من لبنان يحمل هما كبيرا. وفي الأشهر الستة الأولى له بموسكو كان يقرر يوميا أنه سيعود من حيث أتى. كانت شهورا قاسية جدا. معاندة. تدفعه فيها الأجواء الباردة والمحايدة إزاءه دفعا نحو المطار. قال وبعض الدموع في عينيه، وبعض السهو أيضا:"لست أدري كيف مرت تلك الأشهر. كنت أجمع حقيبتي كل يوم. أستعد للمغادرة. وفي الأخير، وكلما تذكرت ما دفعني كي أهاجر، غالبت نفسي، وتراجعت".
كان يحكي وكأنه يعيش ماضيه في تلك الأثناء. يغرق في عينيه. يعود إلى ما فات. في وقت من الأوقات، وأنا أتابعه، شعرت بأنني معه في البيت. أقاسمه الشجن. أنظر إليه وهو بسروال الجينز الباهت والسترة الواقية من البرد، يبكي ويجمع حقيبته، مستعدا للمغادرة. أسمع وجيب قلبه. نشيجه وهو يقترب من الباب. ثم أراه يمسح الدمع، ويتراجع. وأشاهده وهو يتداعى على السرير، كي يمنح لنفسه القدرة على استرجاع الأنفاس. ينهض مجددا. ينزع السترة، ويتجه، بقدمين متثاقلتين إلى المطبخ، ليصنع لنفسه قهوة شامية، ويتناسى حزنه بفيلم أمريكي.
قال لي:"أنقذني الحب. الزواج خلق لي حياة جديدة. فحين تزوجت انتقلت إلى النقيض تماما. وجدت أسرة أخرى احتضنتني. زوجتي مسلمة، ولديهم تقاليد أسرية شبيهة بتقاليدنا. وهذا منحني الدفء. وجعلني أنسى مأساتي، ومعها حقيبتي. ثم يوما بعد يوم صرت أفكر في شغلي وبيتي فقط. واكتشفت بأن هذا هو وطني. ولا أخفيك أنني اليوم أعيش بهدوء". سكت لحظة. استعاد شيئا ما. وقال باقتناع:"أنا أحب روسيا".
ربما أكون مخطئا. غير أنني لاحظت، ونحن في الرحلة الروسية، أن الأجانب ناجحون. أو هكذا خيل لي. فكل الشباب العرب الذين التقيت بهم لمست بأنهم يعيشون في مستوى اجتماعي حسن. لم يكن إبراهيم سيد وحده من جعلني بهذا الانطباع، بل والزملاء المغاربة أيضا، وأشخاص غيرهم صادفتهم هنا وهناك، وضمنهم مغربي التقيته في سان بتيرسبورغ، وكان واضحا أنه يشعر بالراحة، ويتصرف بطمأنينة.
صحيح أن هناك من لمست في عيونهم الحيرة وبعض التيه. ولعل ذلك يعود إلى البعد عن الأهل والبلد. وربما لأنهم حديثو عهد بروسيا. غير أن البقية كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية بالتمام. كأنهم روس، وليسوا أجانب. لم أسمع منهم تشكيا، أو شعورا بالنقص أو الدونية إزاء غيرهم من أبناء الوطن الأصليين.
حين كنت وزميلي رزقو، ذات مساء، في جولة مع الزميل عمر بيكضاض، من قناة روسيا اليوم، شعرت أن هذا الشاب تمكن من الاندماج في المجتمع الروسي. أكثر من ذلك. شعرت بأنه صار مؤثرا بالإيجاب. فهو شاب وقاد. متفتح. يحمل بلده طي الإيهاب، ويمضي إلى أفق أفضل برؤية واضحة. يعرف ما له وما عليه، وما يتعين فعله كي يبقى منطلقا.
عمر درس الأدب الروسي بشغف، ولم ينس جذوره أبدا. تعلم ما معنى أن تكون مواطنا مغربيا روسيا. ونجح في أن ينسجم مع محيطه. وفهم طبيعة الطقس الروسي فهما ناجعا. فليس هناك طقس جيد وآخر سيء في العالم، كما قال فيزيائي مصري للزميل هشام رمرام يوما، بل هناك فقط وطن لائق. وعمر فهم ذلك، واستوعب الدرس بامتياز.
كان هذا الشاب مثالا للسلاسة. يتخذ القرار بسرعة وبهدوء أيضا. يستعمل الوسائل الحديثة دون ضجيج. ينتقل من الدارجة المغربية إلى الروسية مثلما ينتقل سنونو بين طبقات السماء. يمتعك بحديثه عن مساره في ذلك البلد. وحين تحكي له، مثلا، عن سان بتيرسبورغ، ينساق وراءك، ويبدي إعجابه، حتى يشعرك بأنه مهتم، وأن ما تقوله ممتع. إنسان طيب، وناجح.
قال لنا عمر ونحن معه في جامعة الصداقة الروسية العربية، نتقاسم وجبة شامية، حلال، إن هذا المكان بالذات مر منه أغلب العرب الذين يعيشون في روسيا. وإذ كنا نغادر في جنح الظلام، أشار إلى الباحة الكبيرة حيث كان بعض الشباب يغنون ويرقصون، "هذه الساحة في العادة تمتلئ بشباب من كل دول العرب، وحتى بالكبار. فهناك طوابق مخصصة للمتزوجين، حيث يمكنهم اصطحاب أبنائهم معهم". وفهمت أن الأمور معدة لاستقبال جيد ولائق بمن يرون حياتهم هناك.
في اللقاءات الأخرى، وكانت غير كثيرة على كل حال، ولكنها نوعية، ودالة، عرفت بأن مظاهر التدين لا تثير أي اشمئزاز لدرى الروس، الأورثودوكس على الأغلب، مثلما يحدث في دول أوربية وفي أمريكا، وغيرها. فلا ترى مسلما يحني الرأس، أو يشعر بنظرات تثقب ظهره، وهو يمشي بين الناس وفي الأسواق.
لا شك أن هناك حالات أخرى لم أعلمها قد تحكي شيئا معاكسا تماما. غير أن ما قاله الأجانبي عن روسيا، خلال الرحلة القصيرة، وفي أماكن مختلفة، ومدن عدة، وأثناء لقاءات عابرة، بينت أن البلد لم يعد كما كان. فهناك أمور كثيرة تغيرت، وستصل عبر الأعلام الذي جاء لتغطية المونديال إلى العالم. وبالقطع سيطرح السؤال الكبير:"لماذا كذب علينا الإعلام الغربي؟ لماذا ظل الفيلم الأمريكي يحصر الحديث عن روسيا في المافيات؟ لماذا تخصص الإعلام الرياضي في قضية المنشطات؟".
لا أنسى ما حييت، إن شاء الله، تلك الكلمات التي قالها لي روسي، يبدو أنه ينتمي إلى إحدى الجمهوريات الإسلامية، ويعيش بموسكو، حين كنت أجالسه في باحة المسجد الجامع بالعاصمة. قال لي:"نحن نحب العرب. إنهم أناس يستحقون الحب". قلت له وبجد:"ليس كل العرب. على كل حال، فما يفعلون من زمن مسيء للغاية، وحياتهم كلها حروب ومشاكل". قال لي:"ليس هذا صحيحا. فهناك صورة أخرى". وأظنه كان يتحدث بالضرورة عن أولئك الذين صادفهم في موسكو، واكتشف فيهم معدنا أصلا وطيبوبة. ابتسمت وأنا أصدق على كلامه، وحالي يقول:"لو أنك عايشتنا يا أخي لتراجعت عما تقول".
ومهما قلت له، فإن الخادمة بفندق سان بتيرسبورغ، وهي أيضا تنتمي إلى إحدى الجمهوريات الإسلامية، كادت تسقط مغشيا عليها حين شاهدتني وأنا أكتب العربية في "الدفتر الذهبي للفندق". سأتني بأدب جم:"هل أنت عربي؟". قلت لها:"نعم، مغربي". أبدت سعادتها، وقدمت لي خدمات جليلة، مبدية أسفها لأنها لا تجيد اللغة العربية، التي هي لغة القرآن. وفهمت منها هي الأخرى أنها تحب العرب، هؤلاء الذين يقل وجودهم في روسيا، ولكنهم ينجحوا فيها، ويتألقون، مثلما هو حال عمر بيكضاض ومحمد أوزدوتن وإيمان الراشدي، والزميل الصحافي المصري المتألق أحمد الجمل، وآخرين لم ألتق بهم، ويمكن أن تجدهم على حين غفلة، أو تسمعهم يسألونك:"خصك شي حاجة يا أخي؟".