امرأة من حديد

امرأة من حديد!

امرأة من حديد!

 السعودية اليوم -

امرأة من حديد

بقلم -الدكتور مظهر محمد صالح

من بدائع التشخيص التي عثرت عليها، هي تلك الورقة الفضية التي مدت على بساط الحقيقة لتهيئ لي فرصة الشعور بخلود رجالات الأمة العراقية، ودوام إرادة الحياة التي تتوارى فيها فكرة النهاية والتطلع إلى المستقبل.

فحقا بين ثلاث زعامات سياسية عراقية عملاقة، أثرت في التاريخ السياسي والاقتصادي المعاصر للبلاد بعطائها في القرن الماضي، منحت الأمة بالمقابل ثلاثة من عباقرة العمارة، وهم أبناء تلك النخبة التي أرست بدورها ولادة الدولة العراقية الحديثة، ودافعت عن الديمقراطية وبناء الحريات والتقدم في تاريخها الوطني الحافل.

فمثلما شكل رفعت الجادرجي، نجل السياسي الراحل كامل الجادرجي، واحدة من الزوايا الحادة في العمارة العراقية.

فقد شكل هشام المدفعي، نجل رئيس وزراء العراق الأسبق الراحل جميل المدفعي، بنفسه الزاوية المعمارية القائمة التي تحاكي مثلث القوة السياسي في بلاد الرافدين.
ولم تكتمل زوايا مثلث القوة، إلا عندما زينت المعمارية زهاء حديد، كريمة الزعيم السياسي والمفكر الاقتصادي وزير مالية العراق الأسبق، رائد الصناعة العراقية الراحل محمد حديد، زوايا مثلث قوة الأمة العراقية.
تلك المرأة المعمارية التي ميزتها مجلة نيوستيتمنت البريطانية في العام 2010 من بين أول خمسين شخصية مؤثرة في العالم.

انفردت المعمارية زهاء حديد والى مدى بعيد، بالرؤية المستقبلية في تصميم هياكلها المعمارية التي غالبا ما تأخذ أشكال ذات انحناءات طويلة وقوية.
وهي حسب القراءة المعمارية، فأنها من الصنف الذي يستخدم نمطا من أنماط الرياضيات التجزيئية، من حيث التعامل مع النقاط والخطوط والسطوح، مع توافر القوة والصلادة والاستقرار، بما يمكّن من استيعاب فوضى الحياة العصرية!.

فبالقدر الذي برعت فيه زهاء حديد في فن تصميم العمارة العصرية لتحصل في العام 2004 على جائزة علمية نادرة مماثلة لجائزة نوبل، من حيث مكانتها العالمية تسمى جائزة pritzker التي تعد من أعلى الأوسمة المعمارية في العالم، فإنها برعت في فن تصميم الملابس والأحذية النسائية والأثاث وبشكل لافت!

اتخذت زهاء حديد، بناية مدرسة من العصر الفيكتوري في لندن، من دون أن تغفل أن رمز مدرسة العمارة الإسلامية البغدادية والكوفية التي أسسها العملاق المعماري محمد مكية يسكن إلى جوارها لتزهو به ويزهو بها ويزهو العراق كله بهما.
إنهما عملاقا مدرسة بلاد الرافدين في تأسيس التراث المعماري العالمي.

التقيت شخصيا بزهاء حديد في مساء يوم رمضاني من شهر آب 2010، ضمن حشد رسمي من رجالات العراق على فطور عمل، اختارت هي بنفسها مكان مائدة إفطارنا الذي كان مطعم شعبي في اسطنبول، ويدلك المكان من فوره بأنه شديد في عراقته، فسيح في مجلسه، وتسرك في الوقت نفسه بساطة رؤيته، يقع المكان في وسط اسطنبول، ويسمى مطعم اسطه رجب الطاوجي، اذ يبتدئ المطعم وجبات إفطاره، وفق التقاليد الموروثة، بتقديم نوع من ألبان اسطنبول، التي تصنع تقليديا في قرية متخصصة بهذه الألبان، تقع قريبا من ضواحي المدينة نفسها.

كان مطعم اسطه رجب الطاوجي، يحاكي حقا من موقعه بوابات السماء التي انفتحت وقتها على حزمة ساطعة من سلاسل نجمية لامعة أحاط طيفها قلب اسطنبول، الذي اخذ يجرف تيارات الظلمة من حولنا، وهي مسرعة هاربة من حالة الوجود إلى اللاشيء! جلست زهاء على الطاولة نفسها التي جلسنا عليها، ومن الجهة المقابلة لنا، مع فريق عملها من المهندسين، وقدمت من فورها بطاقة عملها التعريفية لنا جميعا، وتطلعت في تلك البطاقة لأجد أمام عيني مستطيل من المقوى شديدة البساطة في تصميمه، خال من الألقاب أو التزويق إلا اسمها واسم عائلتها.

وانك تحس من الوهلة الأولى، أن هذه المرأة العالمية لا تنتمي، إلا لمدرسة واحدة هي مدرسة العراق!.
لم يأخذ الحديث في تلك الساعة همومها المعمارية، ولم يشغلها إلا التحدث عن مصير تلك العائلة البغدادية من الطبقة الوظيفية المتوسطة التي كانت ظروف حياتها تسمح لها في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته أن

تقضي بعض عطلة صيفها في انكلترا، مثلها مثل الكثير من الطبقة الوسطى العراقية!.
ولكن لم تترك الحياة لهم بعد عقود من الزمن من فرصة، بعد أن حاصرتهم أوضاع البلاد الاقتصادية والمعاشية في تسعينيات القرن الماضي لتسحقهم عجلة البؤس التي توافرت بحرية واسعة، وهي تتجاهل مشاعر الناس وتطحن جوعهم، ما اضطر العائلة إلى بيع مدفئة شتائها في أوقات البرد التسعيني القارص لتعوض عنها برغيف خبز، كي تستمر الحياة عندها، ولو بأدنى صورها الممكنة، للتلاحم مع شغف العيش والصراع

من اجل البقاء من دون هدف يذكر!
تحدثت زهاء بحرقة وعاطفة جياشة عن حال العائلة التي تعرفها بنفسها، وحال اهل العراق جميعا في أزمنة العوز والفاقة وعيناها تدمع. إنها المرأة الحديدية صاحبة القلب الكبير.
ونحن نستمع إليها دون أن تعلم أني احد من استبدل مدفئته النفطية بأقراص خبز سمراء في تسعينيات القرن الماضي، ولو سألت زهاء حديد الجلوس كلهم في تلك المأدبة العامرة لوجدت عند كل واحد منهم قصة في

الحزن الإنساني!
فبين زمنين متناقضين، أسهم والدها السياسي الوطني والاقتصادي اللامع الراحل محمد حديد في تأسيس عناقيد أو شركات الإنتاج الصناعي، يوم امتلأت أسواق البلاد بوسائل التدفئة والتبريد والسلع الوطنية الصنع، في ظاهرة لتنويع الإنتاج الصناعي للعراق.

لننتهي حقا بعدها إلى عقود مؤلمة، وأوضاع اقتصادية ممزقة، وأزمنة خلت من عجلات إنتاجها، استبدل فيها الناس ما بحوزتهم من منتجات صناعية وطنية، من الماضي المشرق بخبز الزمن المتردي!
لقد قايضت البلاد حقا عصور تقدمها وازدهارها، التي أسسها رجالات الأمة وبناة نهضتها الحديثة، من قبيل محمد حديد وضياء جعفر وإبراهيم كبة وغيرهم، بعصور هاربة نحو المجهول، إلى عصور التنمية

الضائعة وخراب الصناعة واندثار معالمها، في اقتصاد مبهم خال من دواليب إنتاجه!
لعل أن تعيد لنا مدرسة العمارة العراقية منطلقات حداثتها في بناء عراقي عصري آخر، وبأصابع حديدية، قوامها قلم زهاء حديد وقبضة محمد مكية، وغيرهم من رموز العراق الوطنية المعمارية، من اجل الخطو نحو مستقبل جديد للاعمار، بدلا من ان نتعثر في دفن أنفسنا في الظلام والمجهول والخوف من المستقبل، والتمتع بالعيش في اللامعنى الذي ما زال يخلو من إرادة أفذاذ، يصنعون لنا الغد، وتؤازرهم امرأة من حديد!

alsaudiatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

امرأة من حديد امرأة من حديد



GMT 12:52 2019 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

قرار المحكمة الصهيونية مخالف للقانون الدولي

GMT 18:56 2018 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

أخونة الدولة

GMT 10:35 2018 الأحد ,02 كانون الأول / ديسمبر

عدن مدينة الحب والتعايش والسلام

GMT 09:10 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

ٰ مواطن يمني يبحث عن وطن بدون حواجز

GMT 10:58 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

وذهب.. سوار الذهب!!

GMT 12:24 2018 الإثنين ,22 تشرين الأول / أكتوبر

"عقار جودة" وتسريب الأراضي الفلسطينية إلى المستوطنين

إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:19 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

حظك اليوم برج الأسد الخميس 7 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 18:13 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

حمدي فتحي يسجل أول أهداف مصر في شباك بوتسوانا

GMT 11:25 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

عسيري يؤكد أن الاتحاد قدم مباراة كبيرة امام الهلال

GMT 00:28 2018 الخميس ,05 تموز / يوليو

كروم 67 يدعم تطبيقات الويب المتجاوبة

GMT 15:41 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

سترة الجلد تناسب جميع الأوقات لإطلالات متنوعة

GMT 14:57 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

كليب Despacito يحقق مليار ونصف مشاهدة على اليوتيوب

GMT 18:27 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

العثور على معدات صيد في الدار البيضاء لرجل اختفى عن الأنظار

GMT 21:15 2017 الأربعاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة الدحيل والريان تحظى بنصيب الأسد من العقوبات

GMT 08:17 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

الكويت تجدد سعيها لحل الخلافات العربية مع قطر

GMT 02:26 2017 الجمعة ,14 تموز / يوليو

نادي نابولي الإيطالي يكشف عن بديل بيبي رينا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab