الرياض ـ وكالات
بعد كتابه الأول الصادر في الرياض، عام 2011، بعنوان ‘التحيُّز إلى النقد الغربي في النقد العربي الحديث والمعاصر’، وبعد جملة من الأبحاث والمقالات التي نُشرت له في مجلات وازنة معروفة، صدر للباحث المغربي د. علي صدِّيقي، المتخصص في مناهج الدراسة الأدبية، كتابٌ ثانٍ، في مارس 2013، بعنوان ‘مطارَحات نقدية في الأدب والفكر’، يقع في 163 صفحة من القِطْع المتوسط، ضامّاً بين دفّتيْه أربع دراسات كُتبت في سياقات وفترات متباينة، ونُشر بعضها في وقت سابق، ويَجمع بينها خيط رفيع يجعلها تسعى جميعاً إلى تحقيق الفكرة المحورية لآخِر تلك الدراسات؛ كما ذكر الباحث في توطئة الكتاب (ص4(. تطرّقت المطارحة/ الدراسة الأولى في هذا الكتاب إلى تناوُل إحدى أهم القضايا التي خصّها المفكر والناقد الفرنسي جاك دريدا باهتمام وافر في جُلّ كتاباته، وهي قضية التمرْكُز حول الصوت المنطوق، بدل الكتابة، والاحتفال بميتافيزيقا الحُضور في التراث الفلسفي الغربي، اللذيْن حاول دريدا فَضْحَهما ونقدهما وتقويضهما، بالاستعانة بمجموعة من المَقولات والمفاهيم الإجرائية، وفي مقدمتها مفهومُ الاختلاف، الذي وقف عنده الكاتب وقفة معمّقة، مبرزاً أصْله وماهيته وغير ذلك، ليخلُص إلى أن جاك دريدا ‘يصل بالاختلاف بين الدالّ والمدلول، والانفصال بين عالميْهما، إلى أقصى نقطة ممكنة. من هنا، خطورة مقولة الاختلاف في المنظور التفكيكي؛ لأنها تسمح بقيام اللعِب الحرّ واللامتناهي للدوالّ، وتعمل على تبديد فكرة الحضور التي تحْكُم كل محاولة للبحث عن معنى محدد ومدلول نهائي. وهو ما يعني أنه لا وجودَ لمعنى يكون نهائياً وحاضراً، بل إن كل معنى هو مختلف وغائب ومؤجّل باستمرار، وذلك لغياب مركز مرجعي خارجي ثابت ونهائي يمكن الإحالة عليه، يُوقف عملية اللعبة، ويكون ضامناً للحقيقة والدلالة’. (ص28 29) وأتْبَع د. صدّيقي هذه الدراسة، الجامعة بين التعريف والنقد، بمطارحة ثانية، تدور في حلبة الأولى نفسِها، وتعالج موضوعَها نفسَه، ولكنْ من زاوية مغايرة، تثير لدى النقاد العرب المُحْدثين غيرَ قليل من التحفظ والتحوّط. بحيث تعرّض فيها إلى معالجة إشكالية مهمة في النقد الحديث، تتعلق ببحْث جذور المنهج التفكيكي ومرجعيته في مَنْشئه الغربي، انطلاقاً من الجهْد المميّز الذي بذله المرحوم عبد الوهاب المسيري، في هذا النطاق، علماً بأنه يُعدّ أبرز دارِسِي العربية الذين خَصُّوا قضية التحيز؛ تحيّزِ الفكر الغربي، عموماً، باهتمام بالغ؛ كما تعكسه دراساته النظرية والتطبيقية الكثيرة. وقد أوْضَح الناقد علي صديقي، بالفعل، جهود المسيري في الكشْف عن التحيُّزات اللاهوتية للتفكيكية الدريدية، وفي تبيان قوة ارتباطها بالتراث القبّالي اليهودي، من خلال الوقوف عند عددٍ من مفاهيم التفكيك ذات الخلفية القبّاليّة؛ مِنْ مِثل التمركز حول اللوجوس، والاختلاف، والأثر، والتشتيت، والكتابة الأصلية، والثنائية. وهو ما يجعل هذا المفكر المصري رائداً، بلا منازع، في تناول إشكالية العلاقة بين التفكيكية والقبّالاه داخل مشهدنا النقدي الحديث، ويجعل اجتهاداته في هذا السياق مرْجعاً لا غنى عنه للمُشتغِلين بالتفكيك خصوصاً، وبمناهج الدرس الأدبي عموماً. وأفْرَد علي صدّيقي مطارحته الثالثة لتقديم قراءة ناقِدة لإشكالية أخرى من إشكاليات نقدنا، لا تقل أهمية عن سابقتها، وهي قضية ‘تأصيل مفاهيم النقد الغربي في النقد العربي المعاصر’، بادئاً بتوضيح مفهوم ‘التأصيل’ لغة واصطلاحاً، ومُلِمّا ببعض مَنْ حاول إتيانَه في النقد العربي الحديث (عبد العزيز حمّودة مثلاً)؛ سعْياً إلى تجاوُز تحيّزات النقد الغربي إلى أصوله الدينية والفلسفية، وتقديم ‘النظرية النقدية العربية البَديلة’ المأمولة. وبعد مناقشة عميقة وواعية للمُشكلة المطروحة في هذه المطارحة، خَلَص الدكتور صدّيقي إلى انتقاد مفهوم التأصيل ودعوات المُتحَمِّسين له، نَظراً وتطبيقاً، من نقادنا المُحدثين والمعاصرين؛ إذ أكد أن التأصيل قد تحوّل، لدى هؤلاء، بفعل ممارساتهم التأصيلية المزعومة، ‘من آلية لتأصيل المناهج الغربية ومفاهيمها، وتجاوز تحيّزاتها، وتقديم البديل النقدي العربي، إلى آلية لتكريس هذا التحيز. إن التأصيل بهذا المفهوم في نظر الكاتب يضْمر رؤية متحيّزة إلى النقد الغربي شبيهة بتلك التي يضمرها مفهوم ‘الكونية’؛ لكونه يفترض أن مناهج النقد الغربي ومفاهيمها مطلقة ومتعالية على خصوصياتها، وقابلة لفصْلها عن سياقاتها وظروف نشأتها، وهي لا تحتاج إلاّ إلى توطينها وتأصيلها، بالبحْث لها عن أشباهها ونظائرها في تراثنا النقدي والبلاغي’. (ص107) وجمع الناقد في المطارحة الأخيرة، المتمحْورة حول الأزمة الفكرية العالمية، بين انتقاد الكائن واقتراح المُمْكن .. انتقادِ الوضع الذي أفرزه النموذج المعرفي والحضاري الغربي، والأزمة الخانقة الحقيقية التي قاد إليها، رغم شعاراته الرنّانة التي طالما تبجّح بها؛ من قبيل تبني خيارات العقلانية والعلم والتنمية وتحرير الإنسان الذي عانى طويلاً من كهَنوت الكنيسة وتسلطها في الغرب… وكان لا بد من أن تثير هذه الأزمةُ ردودَ فعل كثيرةً، كان بعضها عنيفاً، وحالةً من الاستياء والاغتراب واليأس والشكّ في مبادئ عصر الأنوار، ومشروع الحداثة الذي دشّنه الغربُ منذ أمد بعيد. وقد عكس ذلك، بوضوح، ثورة الطلاب بفرنسا أواخرَ الستينيات، وقبْلَها النقد العنيف الذي وجّهته مدرسة فرانكفورت، خلال الثلاثينيات، لتلك المبادئ وذلك المشروع معاً. ولعلّ من أوْضَح تجليات أزمة الفكر الغربي الحديث والمعاصر، واستنفاده طاقاته، انتقاله من مرحلة بناء الأنساق الفكرية والفلسفية إلى مرحلة تقويض هذه الأنساق وهَدْمها (ص110). ولم يَكتفِ د. علي صديقي بانتقاد هذا الوضع المُزري، بل ارتأى أن يقدّم مقترحاً يراه قَميناً بتجاوز تلك الأزمة، وذلك القلق الفكري والنفسي، الذي بات يعيشه الإنسان المعاصر، في ظلّ سيادة النموذج المعرفي الغربي المتغلِّب. فعلى النقيض، تماماً، من هذا النموذج، ذي المظهر البَرّاق، الذي يستند إلى مرجعية عَلمانية حُلولية مادية؛ تستبْعِد الغيب، وتعادي المُطْلقات الدينية التوحيدية، وتحصر الوجود في الإدراك، وتوحّد الإنسان بالطبيعة… يقدِّمُ الباحث تصورَه لنموذج معرفي بديل، يقوم على مرجعية توحيدية متجاوِزة، توسِّع أفق نظر الإنسان ليتعدّى حدود عالم الشهادة المحسوس، وتقترح حلولاً عملية لمُعضلات الإنسان وأزماته، وتعيد له توازنَه المفقود وانسجامه مع الكون وأشيائه وَفق الرؤية القرآنية لها. ويشير الباحث إلى أن اقتراح ملامح هذا البديل لا يمثل غاية المَسْعى، بل يظلّ الأمر محتاجاً إلى التمكين له، وضمان إعْماله في الواقع وسَيْرورته على أوسع نطاق، حتى يحقق مقاصده ورهاناته الأساسية، لاسيما وأن السبيل إليه دونَها عقبات كأداء كثيرة؛ منها ما هو مرتبط بالأمة الإسلامية في حد ذاتها، ومنها ما هو مرتبط بالآخَر الغربيّ الذي لا ينظر إلى مثل هذه المُقترَحات البديلة لنموذجه بعين الرضا والقبول بتاتاً! والحقّ أن هذا المؤلَّف عملٌ رصين ومتميِّز، بذل فيه الدكتور صَدِّيقي جهْداً واضحاً في مقارَبة جملةٍ من إشكالات الفكر والنقد المعاصرين، ومساءلتها ونقدها أحياناً، متسلِّحاً بمنهج أكاديمي علمي، وبرؤية عميقة ومتبصِّرة، كانت له سنداً صلباً في مناقشة تلك الإشكالات الكبرى، وكشْف عدد من مواطن القصور والاختلال فيها، وفي اقتراح تصوُّرات جادّة، والإدْلاء بوجْهات نظر حصيفة في مواضيع المطارحات الأربع في كتابه. وهو ما يجعل هذا العمل إضافة نوعية، حقّا، إلى المكتبة النقدية العربية.