واشنطن ـ وكالات
" كنا نشكو طوال سنوات من أن شيئا لا يحدث فى هذة البلدة ، و فجأة بدأت المأساة ، كما لو كان الرب قد أعد كل شئ بحيث إن ما كف عن الحدوث طوال سنوات طويلة يبدأ فى الوقوع " هكذا كان حال قرية " ماكوندو " القرية الأسطورية التى تقع بها أحداث معظم روايات الكاتب الكولومبى الكبير " غابرييل جارسيا ماركيز " . و نحكى هنا عن " ساعة نحس " الرواية من أعمال ماركيز المبكرة ، و التى كانت أساسا لرواياته بعد ذلك تدور أحداث ساعة نحس فى قرية تعيش فى حالة حصار فى زمن ديكتاتورى حيث يسيطر الجيش على السلطة بيد من حديد ، فالقرية تحكمها حكومة طوارئ بعد فترة من الحروب الأهلية و الاضطرابات السياسية ، لكن تحدث أشياء تقلب حياة القرية رأسا على عقب ، فلا أحد يدرى ماذا يدور خلف الأبواب و فى الطرقات . فى بداية الرواية تشعر بأن القرية و ساكنيها غارقون فى السكون ، و لكن مع دقات أغنية " سيفيض البحر بدموعى " التى دوت فى القرية ، يتحول الهدوء لثورة و فيضان ، و عندما يصبح الألم حصيناً في مواجهة المسكنات ، فالإنفجار هو المنتظر . فإذا القرية تستيقظ ذات يوم على مقتل " باستور " العازف الشاب الذى اعتادت القرية على سماع أنغامه و أغانيه فى الصباح الباكر ، وبرغم حالة الانفعال التى تعيشها المدينة ، و لكن حرص العمدة - الملازم بالجيش - أن يوجه إنذاره " حذار إذا قلب أحد على المدينة ، فسألقيه بالسجن " . نشرات الفضائ برغم مقتل باستور ، أعلن مدير السينما عن عرض الليلة ، و لكن من أوقفه القس " أنجيل " ، فقال له مدير السينما " فى العام الماضى قتل رجال الشرطة بأنفسهم رجلا داخل دار السينما ، و ما إن خرجوا بالجثة حتى استمر العرض" ، و عندما يرد القس بأن الأمور أصبحت مختلفة الآن ، يجيب المدير " حين يجرون الانتخابات مرة أخرى سيعود القتل من جديد ، دائما و منذ كانت المدينة يحدث الشئ ذاته " . " أعتقد أن أياما مريرة تنتظرنا " هكذا قالها القس بأسى . كان الجميع يتداول قصة بلدة أطاحت بها نشرات الفضائح فى أسبوع واحد ، فانتهى الأمر بسكانها إلى قتل بعضهم بعضا ، فكانت إحدى هذة المنشورات سبب مقتل " باستور " ، و كان ذلك مدعاة للذعر بالقرية ، فكانت البلاد تتعافى من أوجاعها القديمة ، و الكارثة الراهنة قد تثير المتاعب . أما عن رجل العدل بالقرية القاضى " أركاديو " فكان سكيرا ، لم يدخل مكتبه منذ تعيينه منذ 11 شهر ، و لا عجب من ذلك فالمكتب يحمل ذكريات مريرة ، فعلى نفس الكرسى مات القاضى السابق لأنه أصر أن يضمن حرمة " الاقتراع " ، فحيته الشرطة بوابل من الرصاص أردته صريعا بمقعده ، كما تم قتل نائب الأمن العام بكعوب البنادق . و عندما دخل أركاديو المكتب رسمه لنا " ماركيز " بحس ساخر متشبع بالمرارة ، فتجد أمامك " صورة العدالة معصوبة العينين و تحمل الميزان فى يديها " ، و صورة أخرى كما وصفها ماركيز : " رجل أصلع سمين مبتسم يتقاطع على صدره وشاح الرئاسة و تحته كلمات مذهبة ، السلام و العدل !! " يستمر ماركيز فى سخريته حينما تُسأل إمرأة عجوز عن صحتها فترد : " كل يوم أتحسن بصورة أفضل حتى أتمكن من الاقتراع ! " و عندما قال العمدة للقس : " أعطس يا أبت نحن فى زمن الديمقراطية " . و يسخر ماركيز قائلا : " نظام جديد ساد العالم ، و لم يستطع العثور على أحد أفلح فى فهمه " . كان القس أنجيل الوحيد الذى يرى أن المدينة مثالية ، و أن نشرات الفضائح ما هى إلا نتاج حسد لمدينتهم المثالية . و أرملة مونتيل التى اتهمها الناس بالجنون لأنها أرادت أن تتخلى عن أملاك زوجها ، التى جمعها على حساب دماء الأبرياء ، فعندما وصل حزبه إلى السلطة ، هددت الشرطة خصومه السياسيين بالقتل ، و ابتاع أرضهم و قطعانهم لقاء ثمن حدده بنفسه ، و بتلك الأملاك الطائلة يظل له اليد العليا حتى لو تغيرت الحكومة . أرادت الأرملة المغادرة للأبد ، حتى أن بناتها مقيمات فى باريس رافضات العودة إلى هذة البلاد البربرية التى يقتل بها الطلاب فى الشوارع . ثم ينقلنا ماركيز إلى محل الحلاق المتمرد الذى يتخفى خلف يافطة " الكلام فى السياسة ممنوع " ، و عندما كان يحدث أحد زبائنه " كارمايكل " محامى أرملة مونتيل ، الذى كان يرى أن حالة الاضطهاد انتهت منذ عام و مازال الناس يتحدثون عنها ، فرد الحلاق إن حالة التخلى التى يعيشونها هى أيضا اضطهاد . كان كارمايكل رجلا محايدا هكذا يقول عن نفسه فماذا يملك رجل فى رقبته 11 طفلا ، و لكن رغم ذلك كان نفس الرجل الذى تحمل السجن فيما بعد ، رافضا أن ينقل أملاك أرملة مونتيل إلى العمدة الجشع . العمدة الديكتاتور الصغير فى المكان الذى يجلس به العمدة ، جلس به العقيد " أوريليانو بوينديا " - الذى يتكرر اسمه فى روايات ماركيز - لوضع شروط الاستسلام فى الحرب الأهلية الأخيرة ، و قربه بموضع الثكنات كان يرقد أسرى معسكرات التعذيب . و يتذكر العمدة ليلة قدومه إلى البلدة فى منتصف نهار " مسحوق " فى مدينة ظلت " مستعصية " الولوج ، هبط على المدينة خلسة فجرا و كان يحمل أمرا بجعل المدينة " تخضع بأى ثمن " ، و بتعليمات أحد أنصار الحكومة المجهولين و ثلاثة عتاة الإجرام تم للعمدة ما أراد . و من طرائف العمدة أنه أمر الحلاق بإزالة يافطة " الكلام فى السياسة ممنوع " قائلا : " الحكومة هنا هى الوحيدة المخولة صنع أى شئ ، إننا نحيا فى ظل الديمقراطية و لا أحد يستطيع منع الناس من التعبير عن أفكارهم !! " يا لها من جملة متناقضة ، و كأنه يقول لهم حق التعبير و للسلطة صنع ماتشاء ، حتى حرية التعبير أمر مشكوك بصحته . و عدما سُئل العمدة بما هو مشغول البال ، رد قائلا " بالفقراء " و قال : " علينا أن نجعل هذة البلدة أفضل لأسوء !! " ، و من كرمه عندما غطت الأمطار بيوت الفقراء ، و أرادوا نقلها لربوة أعلى ، فسمح لهم بنقلها على أرض الحكومة مجانا ، ثم ذهب للقاضى يقدم أوراق بملكيته للأرض و يطلب أن تعوضه الدولة على سكن الفقراء بها !! " نتيجة للانتخابات الأخيرة قامت الشرطة بمصادرة و إتلاف البطاقات الانتخابية للحزب المعارض ، و الان لم يعد لدى أغلبية سكان البلدة أى وسيلة لإثبات هويتهم ، و قال العمدة : " أولئك الذين ينقلون دورهم لا يعرفون حتى أسمائهم " . عندما تباهى العمدة أنه أعطى الأرض للفقراء و قال " الحال مختلف الآن ، فالحكومة الجديدة تهتم بأحوال المواطنين " قاطعته امرأة قائلة " أنتم لم تتغيروا .. كانت تلك مدينة طيبة قبل قدومكم " . كان العمدة غاية فى الجشع و لم يترك أحدا لم يساومه ، أو يستولى على أملاكه ، فحرر قاتل باستور مقابل " 10 عجول " ، قائلا له أنه حصل على صفقة جيدة ، فقد صدرت الأوامر بقتله و مصادرة أمواله لتتمكن الحكومة من دفع النفقات الطائلة للانتخابات فى المقاطعة بأسرها . ضرس معار دون ساباس هو من قدم لمونتيل القائمة الكاملة لأسماء الذين تربطهم صلات بجماعات الثوار ، و هذا سبب كونه القائد الوحيد من المعارضة الذى استطاع البقاء فى البلدة ، و لكن بقى زعيم آخر الطبيب . كان العمدة يقض مضجعه ألم " ضرسه " ، و هذة ليست أول مرة يستعين بها ماركيز بألم الضرس ليقض مضاجع الحكام فى رواياته ، فهو رمز بأنهم أبدا لن يهنأوا بحكمهم المطلق ، و سيوجد دوما من يعارضهم . الطبيب جيرالدو رفض معالجة العمدة ، فاقتحم عيادته مع عساكره ، و هدد بقتل زوجته ، و أدعوا أن الطبيب يخفى أسلحة بمنزله ، و قاموا بتمزيق كل ما فى الدار . فاضطر الطبيب لمعالجته على مضض ، و عندما طالب العمدة أن يخدره قبل أن يخلع ضرسه ، رد عليه قائلا : " إنكم أيها القوم تقتلعون دون مخدر " .