دمشق ـ وكالات
يُصدّر الروائي السوري نبيل سليمان «مدائن الأرجوان»، روايته التاسعة عشرة (كتاب دبي الثقافية)، بمقتبس من لوي آراغون هو: «ذات مساء جميل كان يُدعى فيه المستقبل ماضياً، في تلك اللحظة، كنا نلتفت إلى الماضي، لنرى شبابنا». ولعله يريد الإيحاء أن المستقبل والماضي مترابطان ترابط السبب بالنتيجة أو متماهيان فالمستقبل ماضي الأمس والماضي حاضر اليوم ومستقبله. وأن ما يجري في سورية اليوم من حاضر قاسٍ ما هو إلاّ نتيجة لماضٍ أقسى، على أمل أن يكون المستقبل أفضل من الماضي والحاضر. في «مدائن الأرجوان»، وانطلاقاً من التصدير أعلاه، يلجأ نبيل سليمان إلى نوع من التقية في تصوير الواقع الراهن، فيتناول التاريخ مسقطاً إياه على الحاضر، وهنا، يغدو التاريخ وسيلة روائية لا هدفاً بحد ذاته، وهي وسيلة مشروعة حين يكون الكاتب واقعاً تحت القمع على أنواعه. أمّا حين ينكسر حاجز الخوف ويخرج الناس بصدورهم العارية في مواجهة القمع أخشى أن تصبح معها تلك الوسيلة نوعاً من الترف الثقافي، مع العلم أنه قد يكون من السابق لأوانه مقاربة الواقع الحالي روائيّاً ما يجعل ذلك «الترف» مبرّراً. في نهاية الوحدة السردية الأولى، يقول الكاتب: «تراءى صاحب الوجه لكثيرين يحمل خابية طافحة بالأرجوان، ويدلقها فوق واصف الذي كان قد ارتمى على الإسفلت يتقيّأ دماً». (ص28). وفي نهاية الوحدة السردية الأخيرة، يقول: «وفجأةً دوى انفجار هائل، وتطايرت في السماء وفي الأنحاء كافة أشلاء سيارات وبشر وشجر وحجر، واندلقت خوابٍ كثيرة من الأرجوان على الإسفلت». (ص357). وهكذا، ترد مفردة الأرجوان في العنوان، وفي بداية الرواية ونهايتها على الأقل، في سياق مخالف لتاريخ هذه المفردة. وإذا كانت ارتبطت ذات يوم بحقل معجمي جمالي حين شـكّلت اسـماً لصـباغٍ جميل اكتشفه الفـينيـقيون وصـدّروه إلى العالم، فـاتـصلت بالجـمال والازدهار، فإن ورودها في الرواية يشير إلى سياق مخالف يتصل بالدم المراق في سورية والعنف المستعر، على مدار الساعة، وإن وردت في شكل استعارة جميلة كمدائن الأرجوان أو خوابي الأرجوان. بين الوحدتين الأولى والأخيرة، وطيلة ثمانٍ وعشرين وحدة سردية، يرصد نبيل سليمان ممارسات النظام الأمني الذي يحصي على الناس حركاتهم وسكناتهم متّكئاً على الصراع الذي اندلع في ثمانينات القرن الماضي بين النظام و «الإخوان المسلمين». وهو يفعل ذلك من خلال رصد مسارات عدد من الشخصيات الروائية التي وقعت بين مطرقة النظام وسندان «الإخوان» من دون أن يعني ذلك المساواة بين الاثنين في المسؤولية، فالروائي الذي يرفض التطرّف والعنف الصادرين عن بعض الجهات المعارضة يتخذ موقفاً واضحاً من ممارسات النظام القمعية وأساليبه في إخضاع الناس وإسكاتهم. تشكّل واقعة سقوط واصف عمران على الإسفلت مضرّجاً بدمه بداية وقائعية للرواية، ويشكّل موته النهاية. وبين السقوط والموت، وفيما يتعدّى هاتين الواقعتين، تتم بواسطة التذكّر استعادة الخيط السردي الذي ينتظم هذه الشخصية، بدءاً من عمله ضابطاً في الإدارة السياسية، مروراً بعمله في التحضير الإعلامي والشعبي لزيارات القائد، وعمله معلّم حرفة في ثانوية صناعية، وإصابته ودخوله المستشفى، وبنائه شاليه على الشاطئ، وإيوائه بعض المطلوبين بدافع المروءة، والقبض عليه، وصولاً إلى اختفائه، فموته. هذا الخيط السردي بمحطاته المختلفة يشكّل محوراً تنتظم حوله الخيوط السردية الأخرى لتشكّل معاً حبل الرواية، والعلاقة بين الخيوط المختلفة تنتظم في جدلية الظهور والاختفاء، وتتفاوت الخيوط في طولها وقصرها. غير أن واقعة اختفاء واصف عمران بعد القبض عليه تشكّل مهمازاً للأحداث، فيقوم أخوه يزن، الأستاذ الثانوي، بالبحث عنه، بمساعدة مباشرة من رمزية زوجة المخفي، وغير مباشرة من حميّه الأثرم الذي يدخل معه في تمثيل مشهد المراجع والمحقق تمهيداً لقيامه بمراجعة المحققين، ثم ينخرطان في اللعبة ويغدو التمثيل جزءاً من الوقائع الروائية وآلية من آليات دفاع المقموعين، ويكون على يزن أن يخضع في سياق البحث عن أخيه المخفي في فروع الأمن لسلسلة من جلسات التحقيق حتى ينتهي به المطاف في الشام ليفاجأ بأن رئيس الفرع الذي استدعاه هو المقدم معين ابن فتكة، جاره السابق في حلب. وإذ يُعلمه الأخير بموت أخيه ويحذّره من إقامة عزاء له، يخرج يزن من الفرع، فيلازمه ابن فتكة في خروجه. وحين يبلغان الشارع الرئيسي يدوّي انفجار كبير.