القاهرة - أ.ش.أ
فيما يشكل صعود "ظاهرة الشعبوية" مشكلة ثقافية-سياسية بحاجة للدراسة والفهم فان الظاهرة التي تتجلى في الغرب كما في الشرق تكتسب خطورة بالغة عندما تقتحم عقائد الأخرين واديانهم او تحاول التلاعب في تناولها كما هو الحال في كتاب صدر مؤخرا لجلين بيك بعنوان :"هذا عن الاسلام".
وظاهرة الشعبوية طالت امريكا ومصر والعالم ككل وهي واضحة في بعض وسائل الاعلام وخاصة التلفزيون كما انها تتبدى في تصرفات ساسة ودعاة او رجال دين ويبدو انها تتصاعد في اوقات الأزمات واللحظات العصيبة والمفصلية في حياة الأمم والشعوب.
وفي الأصل اللغوي كما تحدده المعاجم فان كلمة "شعبوية" مشتقة من كلمة "الشعب" واذا كان هذا الأصل اللغوي لايتضمن قدحا او ذما فان القدح والذم كانا بسبب السياقات السياسية-المجتمعية واساءة استغلال الحديث باسم الشعب او للشعب لحد الاسفاف واهانة العقل احيانا فيما امست "الشعبوية" مقترنة واقعيا بأزمة عامة في اي مجتمع ووضع سياسي-اجتماعي يصعب تحمله من جانب الأكثرية.
وخطورة "الشعبوية" كظاهرة في السياسة انها قد تفسد بالفعل اي عمل ايجابي وحتى في الديمقراطيات مثل الديمقراطية الأمريكية فهناك شكوى مريرة من ان "النزعة الشعبوية المتعاظمة في السياسة تعرقل انجازات الادارة من منطلق لمجرد المعارضة فضلا عن خداع الناخبين بالشعارات التي تستهويهم دون تقديم حلول واقعية لمشاكلهم".
وجلين بيك صاحب الكتاب الجديد "هذا عن الاسلام" ظاهرة شعبوية امريكية بامتياز ولدت من رحم الأزمة الاقتصادية الأخيرة عام 2008 فيما باتت كتبه ومحاضراته في العقائد والاقتصاد والتاريخ تحظى باقبال منقطع النظير في الولايات المتحدة خاصة بين انصار مايعرف "بحزب الشاي" .
وهو صاحب طريقة امريكية اشبه الى حد ما بالطرق الصوفية في الشرق ويتحدث بصورة محببة عن ضرورة التوبة والتطهر من الآثام وعدم القنوط او الاستسلام لليأس مع التحلي بفضيلة مساعدة الآخرين ونبذ الكراهية والتحاقد بين الأمريكيين وكخطيب ومتحدث موهوب يعيد للأذهان ظاهرة "الأب كوفلين" التى انتجتها فترة الكساد العظيم فى الولايات المتحدة اثناء عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فيما لاينأى عن مهاجمة الرئيس الأمريكي باراك اوباما او وصفه بأنه "اشتراكى" ككلمة سيئة السمعة لدى اغلب الأمريكيين!.
وفي كتابه الجديد "هذا عن الاسلام:كشف الحقيقة عن داعش والقاعدة وايران والخلافة " تجلت كل مظاهر الديماجوجية والشعبوية عندما خلط جلين بيك بين الاسلام والارهاب وكأنهما شيء واحد.
ففي هذا الكتاب الذي احتل مكانة متقدمة في قوائم اعلى مبيعات الكتب بالولايات المتحدة والغرب عموما يسعى جلين بيك لتقصي مايصفه بجذور التطرف الاسلامي في تعاليم المسلمين فيما وجد من يهلل له في الغرب ويروج للكتاب باعتباره "الكتاب الدليل" لفضح "افتراضات امست اقرب للحقائق الراسخة عن الاسلام وحلم الخلافة المتجدد".
جلين بيك محق عندما يتحدث في هذا الكتاب الجديد عن "برابرة داعش" و"التكتيكات الارهابية للقاعدة والجماعات المنبثقة عنها" كما ان له الحق في ان يطرح وجهة نظره المحذرة بشدة من "مخاطر ايران النووية" رغم الاتفاق النووي الأخير بين ايران والغرب وكذلك "التأويلات المتشددة للاسلام" و لكن السؤال الكبير :"هل لديه الحق في النيل من صميم العقيدة التي يؤمن بها مئات الملايين من البشر في شتى انحاء العالم .
ليست المشكلة ولا من الخطأ والخطل ان يقول جلين بيك ان التأويلات المتشددة للاسلام تهدد ارواح ملايين البشر غير ان عين المشكلة ان يعمد هذا الشعبوي الأمريكي بدوره للتأويل وان يذهب الى ان الخطر يكمن في صلب العقيدة الاسلامية ذاتها.
وهاهو يقول في كتابه الجديد ان الصراع مع داعش والقاعدة وايران لن ينتهي حتى "نواجه الحقيقة بشأن هؤلاء الذين يجدون الهامهم ومبرراتهم في الدين ذاته" وهاهو يورد آيات من القرآن العظيم واحاديث لنبي الاسلام الكريم مع اقوال قادة جماعات متطرفة وارهابية مثل داعش والقاعدة والاخوان في سبيل اثبات افتراضه السيء حقا آلا وهو :المساواة بين اصل الدين الاسلامي كما يجسده القرآن والأحاديث النبوية وبين جماعات التطرف والارهاب.
ومن نافلة القول ان تلك الجماعات المتطرفة والارهابية التي روعت العرب والمسلمين قبل غيرهم في هذا العالم والتي تبدو كأدوات جهنمية حافلة بالشرور هي التي تمنح الفرصة لمثل جلين بيك ليحاول اثبات افتراضه المريض في المساواة بين الاسلام والارهاب وهو يتناول "الدوافع الفقهية القاتلة لجماعات الارهاب".
ولئن ذهب البعض في الغرب من المتحمسين لجلين بيك الى انه "يسمي الأشياء بأسمائها" فالحق من منظور نقدي منصف وعادل انه "يلوي عنق الأشياء لاثبات مالايمكن اثباته" اي افتراضه الضال الذي يرمي للمساواة بين الاسلام والارهاب.
وكتاب " هذا عن الاسلام" انضم فورا لكتب جلين بيك الرائجة شعبيا في الولايات المتحدة مثل:" معجزات ومذابح" و"اجندة 21" و"امريكا الحقيقية" و"ملاك الثلج" و"ان تكون جورج واشنطن" فيما يستهل بيك كتابه الجديد بطرح لموقف احد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة وهو الرئيس توماس جيفرسون ازاء الاسلام.
و ينظر فريق من المثقفين الأمريكيين لظاهرة جلين بيك التى تمثل احد اهم الظواهر الثقافية-السياسية المقترنة بما يسمى بحزب الشاى باعتبارها دليلا على سيادة الديماجوجية والتحلل المفزع للبنية العقلانية الأمريكية جراء الأزمة المالية.
وفيما يذهب بعض الرافضين لهذه الظاهرة الى ان جلين بيك مجرد دجال موهوب وممثل بالسليقة استغل معاناة الأمريكيين ليتاجر بها ويحقق حلمه فى الثراء والشهرة فانه يعمد في كتابه الجديد لدمغ الاسلام خلافا للحقيقة بأنه دين حرب ولايقبل التسامح مع اتباع الأديان الأخرى.
ولئن اتبع المؤلف اسلوب الاجتزاء المتعسف للسياقات التي يحاول الاستشهاد بها سواء من القرآن العظيم او الأحاديث النبوية لاثبات صحة افتراضه وتحقيق مآربه في المساواة بين الاسلام والارهاب فقد اثارت ظاهرة جلين بيك جدلا كبيرا فى امريكا بين مؤيدين ومعارضين حتى ان عدة كتب تناولت فى الآونة الأخيرة هذه الظاهرة مثل كتاب "ابتذال العقل..جلين بيك وانتصار الجهل" بقلم الكسندر زيتشيك والذى يهجو صعود هذا الرجل بما يمثله من هزيمة للعقلانية وتغييب للمنطق العلمى وعلى ذات المنوال ينسج دانا ميلبانك فى كتاب "دموع مهرج".
فالمثقف النقدى الأمريكى مثل الكسندر زيتشيك ينظر لظاهرة جلين كدليل على ان الديماجوجية لايمكنها ابدا ان تحتوى على جوهر متماسك لكن هذه الظاهرة مفيدة كمقياس او ترمومتر للتعرف على مزاج المجتمع واتجاهات الرأى العام والتغيرات المجتمعية.
اما الباحث السياسى فينظر لجلين كرجل يجيد العزف على الأوتار الحساسة لمجتمع فى ازمة وبشر انهكتهم الديون ويبحثون عن حرية الارادة والتطهر الروحى فيما بات يوصف بأنه عراب او منظر حزب الشاى بل والملهم لجماهير هذا التيار الذى يطفو على سطح المجتمع الأمريكى منذ الأزمة الأقتصادية الأخيرة.
ومن ثم فلا يجوز الاستخفاف به او اهمال كتاباته مهما كانت الملاحظات حول ضحالة افكاره وسذاجة تصوراته من وجهة نظر المثقف النقدى..ومن الكتب التى الفها جلين بيك او شارك فى تأليفها كتاب بعنوان "افلاس..الطريق لاستعادة الثقة والصدق والمال".
أما كتابه الذى لقى رواجا منقطع النظير فكان بعنوان "الرشد" واقترن هذا الكتاب بظهور تيار الشاى كقوة يحسب حسابها فى الساحة السياسية الأمريكية وهو نموذج لتوظيف الدين فى خدمة تصوراته للمجتمع فيما يتحدث عن الخطايا والآثام التى تلطخ وجه امريكا بسبب خروجها عن جادة العقيدة ورسالة السماء وبما يثير تساؤلات ملحة حول حقيقة علمانية المجتمع الأمريكى فى مرحلة مابعد الحداثة!.
بلغة مؤثرة ومفردات تنبض بالحماس يتحدث جلين بيك عن امريكا التى تخلى ابناؤها عن مبادىء الأباء المؤسسين باسم التقدمية بينما تظهر نخبها تعطشا ونهما للسلطة وتتراجع حقوق الأفراد فى سياق عملية طويلة وصيرورة بلغت ذروتها مع "اشتراكية باراك اوباما".
ويتناول اشكالية الديون بقوله:الأمريكيون تغيروا..ففى الماضى كان الأباء والأجداد لايقترضون الا لأشياء ضرورية لهم مثل الحصول على منزل او سيارة او تسديد رسوم الدراسة اما الآن فان الأمريكيين يعتمدون على الديون ليعيشوا الحياة المرفهة التى يتوهمون انها من كدهم وكدحهم فيترددون على المطاعم الفاخرة ويشترون الزوارق الرائعة ويقضون اجازات الصيف فى اماكن ساحرة ويتفقون على ذلك كله بالاقتراض والديون!.
و التحولات فى افكار جلين بيك "عراب" او "منظر" تيار الشاى اقترنت بالأزمة الاقتصادية وتأثرت بها بوضوح بقدر مايمكن القول ان تيار الشاى ولد من رحم الأزمة الاقتصادية واكتسب زخما مع شعور الأمريكيين بأنهم على شفا هوة مخيفة وحتى لو نجت الولايات المتحدة من السقوط فى تلك الهوة فان المعاناة ستستمر لفترة طويلة.
غير ان الأمر المثير للفضول هو اقتراب هذا الرجل مما يسمى بالقوى الغامضة والمستترة ومحاولته سبر اغوارها..فهو يتحدث عن شبكة تآمرية تضم بعض رجال المال والأعمال والساسة تعمل مع منظمات وحكومات اجنبية لاقامة مايسميه بالنظام مابعد الديمقراطى وهو نظام تحكمه النخب والخطير انه يتهم هذه القوى بالضلوع فى هجمات 11 سبتمبر 2001
واذا كان جلين بيك اقرب بالتأكيد للحزب الجمهوري منه للحزب الديمقراطي رغم انتقاداته للحزبين معا فان الحزب الجمهوري يشهد حاليا مولد تيار ينأى بنفسه عن "الشعبوية" ويحاول الاستفادة من دروس هزيمة الحزب امام الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كما يحاول ابتكار افكار جديدة سواء في السياسة الخارجية او الضرائب واصلاح المنظومة المصرفية.
وفي المقابل فان جناحا اخر داخل الحزب الجمهوري مازال متمسكا بالشعبوية في الأقوال والشعارات التي تسفر في الواقع عن ازمات واحدة تلو الآخرى كما حدث عندما اطلق المرشح الرئاسي الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة جون ماكين تصريحات مستفزة ضد مصر وثورتها الشعبية في الثلاثين من يونيو وهو ذاته الذي كان من ابرز المؤيدين للحرب الأمريكية على العراق.
هناك حاجة ثقافية لدراسة وفهم الحركات الشعبوية في مصر وخارجها لأن ظهور هذه الحركات وصعودها مؤشر على وجود خلل في العملية الديمقراطية ينبغي على النخب ان تنتبه اليه وتتعامل معه كما تقول الباحثة كريستا ديويكيس في درسة بعنوان "الشعبوية"..اما الخطورة كلها فهي التناول الشعبوي لأديان وعقائد الأخرين كما فعل جلين بيك في كتابه الأخير !..كتاب يرحب به ذئاب التعصب في عالم بحاجة للغة التسامح