الرياض - العرب اليوم
استطاعت القصيدة الجديدة أن تشكل ملامحها، خلال فترة قصيرة، وترافق ذلك بوعي جديد لمفهوم الشعر، نجد ذلك في الاهتمام بما هو جزئي واستنطاق اللغة اليومية، ومقاربة الصورة اللوحة.
ومن هنا جاءت القصيدة التي تنثرها فوزية أبو خالد، إنها تنتمي لقصيدة «الرؤيا» بكلّ ما تحمله من أبجديات هذه الرؤيا، بل إنها تسعى للقفز عليها وتجاوزها، فهي تبني وتهدم وتنطلق إلى عالم النساء، لتسيطر على القصيدة الزرقة القاتمة بعد أن كانت تجمع الحسن والجمال:
أيُّ فردوس أنسلَ منه النساء
وسكّبْنَ الشراب... على... سبات السابلةْ؟
نهرِّب ماء السماء في سواد المساء
نقطّر شمساً نحاسية على شحوب الصحراء
اقرأ ايضًا:
"القرية الفرعونية" تحتفل بمرور 35 عامًا على إنشائها
تتساءل الشاعرة، وتتغنّى من أي مكان في الجنّة جاءت الحوريات من النساء لقد جئن، وهن يحملن الأباريق والكؤوس ليسقين بها الرجال الذين يغطون في نوم عميق.
إنهنّ يهربْنَ مطر الحياة في هذا الليل الشديد العتمة.
وهنّ يجعلن الشمس تذوب قطرة قطرة وترتمي على هذه الصحراء الباهتة.
إنّ الشاعرة تبحث عن وطن... مسوّر بالفرح والأمنيات، يخلو من أولئك الذين يغتالون البهجة في الصدور ويعرّشون على نجمة الصباح لنحرها عند شروق الشمس.
أيّ نعاس يغالب صحو الصبايا
نستمطر الوقت عمراً وحبراً جميل
نستمطر الطرقات... وطناً
يبدد الوحشة المشتركة
إنّها تطرح لغة جديدة ومضامين فكرية حارّة تمسّ الإنسان والحرية للمرأة... تمسك باللغة الشعرية قديمها وحديثها وتصوغ منها أدق وأجمل الأشعار، يتجلى فيها أنموذج دلالي خالص في نمطيته أسلوباً ودلالة وتصوراً.
إنّ الرياح هي التي تحرك الأشرعة، وتجعل السفينة تسير إلى ما تشاء، ومنذ الطوفان، ساعة جمع النبي نوح من كلّ زوجين، كانت الأنثى... وكان الرجل، وكان اللقاء بينهما، ولكن الرجل طغى على الأنثى، وصار يتجبر، ويأمر ويطلب الطاعة العمياء، والمرأة ليس لها إلا أن ترضخ ساكنة وساكتة، وتصبر إلى ما شاء الله. وتظل شهرزاد تنتظر وتعلّق قمراً على نافذتها، وتضع كفاً على خدها وتنظر إلى السماء، علّه يأتي... وساعتها لن يكون اللقاء.
أيّ قمر علقته شهرزاد على ليل اللقاء؟
قلنا اقترب
قلنا عصافير تحترق
قامة تورق
لقد جاء العيد وتجهزت النساء له، وتجملن فهو عرس البلاد، وجمعن بين الاخوة الذين يتكفنون بالوطن، وبين معبودهم، وقد توضأت الشاعرة بأن وضعت على الجرح ملحاً، ووهبت العلاقة بين الاثنين لجنين يصرخ مع أوّل تباشير الصباح.
إنّ المستوى الدلالي للغة الشعرية الموجودة لدى الشاعرة يسهم في نقل المضمون الذي تنوي أن توصله، فنحن أمام (الطوفان وشهرزاد وزقاء اليمامة والحناء، وشجر السدر وأجنة المطلق... الخ) ونحن أمام حياة النساء، وتسعى الشاعرة إلى أن ترى التفاعل بين هذين البعدين الممتلئين بالدلالة على نحو يحقق تلك الخصوصية التي تميز بها شعرها، كما تسعى دائماً إلى إثراء المضمون، والكشف عن امتلاء الحياة، من خلال التركيز على العناصر المضادة في الحياة، من هنا نستشعر الملح في قصيدة النساء، إذ تضع، أو تتوضأ وهي مجروحة بالملح، فأي صورة هذه، لم تقل غسلنا الجرح بالملح، وإنما كانت الصورة أكثر تعبيراً، عندما قالت «الجرح بالملح وضأنا» فهي تحولت إلى جرح، وتوضأت بالماء المالح. والشاعرة تستعين بالتراث، ولكن على طريقتها، فهي تستخدم «شهرزاد»، التي تنتظر شيئاً ما، وهي تجلس على نافذتها تحدّق في القمر البعيد، و«زرقاء اليمامة» تطلّ من مكان مرتفع لتقرأ في سفرها، إشارات الغياب، إنّها في غابة من شجر السدر ولكن لا شيء تحصل عليه سوى الفراغ.
إنّ الصور الشعرية عند الشاعرة تتراوح بين بسيطة في تركيبها وصور كثيفة تمتلك تأثيراً حداثياً، ولكن الصورة البسيطة ستكون لها الغلبة على مدى التجربة، لأن المضمون الشعري في حالة تحفز مطّرد، يريد أن يستبعد كلّ المعطيات الشعرية ليقدم نفسه إلى متلقيه مكتفياً بالأدوات التي سبق أن تكونت في مجمل التجربة الشعرية، تقول في قصيدة «إلى متى نحتسي البحر»:
من نحاس حوريات يتشمسن على بحور غير آهلة إلا بالحوت واليخوت
تفتح الحواس دفاترها
من لعاب عذارى مستوحشات...الخ
أما المستوى الثاني للصور، فسوف ينتقل بنا إلى منطقة شعرية جديدة، ونقرأُ هذه السطور لنتعرف أكثر، تقول في قصيدة «المكيف»:
من يخالني ألطف الجو/لا يعلم شيئاً عن تجرعي/لكلّ أنواع السموم التي/
لا تتركني إلا وقد جربت/كلّ أنواع البكاء.
وبذلك تتمكن القصيدة من أن تقدم أعماقاً جديدة، أن تزيح عن كاهلها ذلك الحصار الذي جمدها وعزلها، لتصبح طيعة ممتلئة، تشتبك مع احتمالات الدلالة في الكلمة الأخرى، لتنتج الحالة الكلية التي تبحث عنها الشاعرة، معبرة بذلك عن معاناتها الغنية، ومغامراتها الإبداعية التي جسدت تلك المعاناة.
أمّا الموسيقى التي تعتمدها الشاعرة فهي موسيقا الشعر الجديد، إنها تفجر حزنها وتعتبر أنّ النساء يلقين الضيم، وذلك من بعض حضارتنا، من بعض ثقافتنا، بل هي بعض من هزائمنا. إنّ أغلب القصائد تجسّد المحنة والفجيعة لدى الشاعرة وما يحيط بها من مآسي وقهر، لذلك فقد اجتاحت تلك القصائد في تفعيلة قوية مليئة باللوعة والحسّ العارم بالألم لتؤدي بتنوعها هذا هدفها أداء جيداً.
والبحث عن الخلاص سمة عامّة عند الشاعرة، فقد يكون شخصية مبهمة ولكنها نبيلة تحلم الشاعرة بقوتها الخفية:
لم يبق من القوم إلا القابض على جمر الوطن
وقد يكون هو «أنا» الشاعرة:
قصائد يد شعب في إناء/حب في إناء/حرب/والحرب لا يدخلها نصف قطيع/ ونصف إماء.
إنّ تجربة الشاعرة فوزية أبو خالد حققت معادلة توجيه التراث، وألا تسمح لهذا التراث بأن ينفي خصوصية وجودها، لقد تجاوزت السلبيات، وطرحت مشروعاً شعرياً يختلف عن النمط الشعري التقليدي، دون أن تتخلى عن التراث، وعن روح البحث الدائم عن أواصر مع ما ينبغي أن يستمر، وأن يساهم في السعي نحو خلق رؤية شعرية عربية جديدة.
قد يهمك أيضا: