التراث السوري في خطر
دمشق ـ جورج الشامي
يتعرض التراث على طول الأراضي السوري وعرضها لانتهاكات فاضحة، بدءًا من قصف المواقع التراثية، مروراً بحرقها، وتحويلها ثكنات عسكرية، وصولاً إلى سرقة محتوياتها ونهبها وتهربيها وبيعها. والثروة الثقافية
في سورية المرتبطة بموقعها الجغرافي الخاص، ومنذ بدء حضارة بلاد الرافدين قبل أربعة آلاف عام ، شكلت تقاطعاً لنفوذ الحضارات المختلفة من أصقاع الأرض، من رومانيين ويونانيين وفرس وحثيين وآشوريين ومصريين وبابليين وسومريين وسريان، وغيرها من الحضارات، والسؤال هنا من يحمي هذا التراث الأزلي مما يواجهه من مصير منذ ما يقارب العامين؟
القوانين الدولية لم تستطع أن تقدم شيئًا لهذا التراث التاريخي، على رغم قوانينها الصارمة التي تتمثل في اتفاقية لاهاي 1954 التي تنص على التزام الأطراف المتصارعين بحماية المواقع الثقافية في حال أي نزاع مسلح.
والبند الرابع الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينص في الفقرة هاء من الفصل الثاني للمادة "8" من الباب الثاني ، على ان "تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية، والآثار التاريخية، والمستشفيات، وأماكن تجمع المرضى والجرحى، شرط أن لا تكون أهدافاً عسكرية" تعتبر جريمة حرب تدخل ضمن اختصاص تلك المحكمة.
إن اتفاق حماية، أو جريمة حرب، أو أي من القوانين الأخرى لم تمنع المتنازعين في سورية من التنكيل وتهديم وسرقة التراث السوري، إذ تتهم المعارضة السورية النظام بتدمير الآثار ونهبها، ويوثق هؤلاء عددا من هذه العمليات، منها حرق السوق الأثري في مدينة حلب الذي يرجع إلى العصور الوسطى والمدرج على لائحة اليونيسكو لمواقع التراث العالمي العام 1986وقصف قلعتها أكبر
القلاع التاريخية في العالم وتحويلها ثكنة عسكرية لقوات النظام، وقصف المباني التاريخية بذريعة وجود عناصر إرهابية فيها، وتدمير جانب من الجامع الأموي الكبير في المدينة المدرج في لائحة اليونيسكو ايضا.
دمار المواقع الأثرية في مدينة حمص كان هائلا، حيث هُدمت مئذنة جامع كعب الأحبار الذي يعود إلى العهد الأيوبي ، ومئذنة جامع وحشي وثوبان الذي يعود إلى العهد المملوكي، فيما تعرض سوق النوري الذي يعود إلى العهد الأيوبي لقذائف الهاون، في حين تعرضت كنيسة أم الزنار التي بنيت تحت الأرض العام 59 لدمار كبير في بنيتها العمرانية. وتعرض متحف تدمر الى النهب، حيث اعلنت السلطات السورية سرقة التمثال الذهبي الذي يعود إلى العام الثامن قبل الميلاد ويمثل الإله الآرامي، كما تعرضت الأعمدة اليونانية للرصاص، فيما تمركز قوات النظام السوري داخل قلعة ابن معان ، في حين تعرضت قلعة الحصن للقصف بحجة وجود عناصر مسلحة مختبئة فيها، فيما تعرض متحف المدينة للنهب والسلب.
باقي المحافظات كان نصيب آثارها مماثل لمدينتي حلب وحمص، فتعرضت درعا لتخريب متعمد لعدد من الحواضر داخل مدينة بصرى، أبرزها تدمير سرير بنت الملك الأثري، في حين تعرضت الآثار في إدلب وريف دمشق للنهب والسرقة والتدمير، وتعرض متحف حماه للسرقة أيضاً.
توثيقات المعارضة السورية تزامنت مع عدد من التقارير الدولية التي رصدت الدمار الذي لحق بالآثار السورية ، ومنها منظمة "غلوبال هيرتش فند" التي اصدرت نهاية العام الماضي تقريرها الاول المفصل عن وضع الآثار في سوريا، أشارت فيه إلى مناطق أثرية تعرضت للقصف وأخرى استعملت كمواقع عسكرية، وثالثة تعرضت لآلاف عمليات النهب.
ففي دير الزور تحول موقع تل الشيخ حمد المعروف في مدينة كاتمو الآشورية ساحة قتال بين الجيشين النظامي والحر، حيث تعرضت آثار الهيكل الآشوري للدمار، كما دارت اشتباكات حول قلعة المضيق في أفاميا.
وتمركز جيش النظام في قلعة ابن معن التي تشرف على مدينة تدمر الأثرية، وكذلك الحال في قلعة الحصن. الصورة مكررة في حصن الأكراد الذي يعود لزمن الحملات الصليبية، فموقعه الجغرافي الاستراتيجي حوّله نقطة صراع بين القوى العسكرية.
وفيما لم تسلم المباني الدينية من الضرر جراء القصف المدفعي، تعرضت 3 مواقع مدرجةعلى لائحة التراث العالمي في شمال البلاد إلى التدمير، وهي المواقع التي تعود للحقبة البيزنطية، كما قضت عمليات الدمار والهدم على أهم معالم مدينة حماة الأثرية وأحيائها القديمة ذات الطراز المعماري المميز، كما تعرض حي الكيلانية القديم الذي يعود إلى العهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية لدمار كامل.
في المقابل ، كانت سرقة تمثال يمثل إلهاً آرامياً يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد من أكبر الخسائر ، ولم تسلم متاحف دير الزور ومعرة النعمان والرقة وجعبر من السرقة.
مسؤولية النظام السوري عن تدمير الآثار لا يمكن دحضها، خاصة أن معظمها موثقاً بالفيديوهات والشهادات، ولكن في المقابل تنقل بعض الجهات قيام بعض من قوات المعارضة ببيع تحف أثرية لشراء السلاح.
وكان عضو المجلس الوطني السوري وأحد نشطاء معرة النعمان الدكتور عثمان بديوي اكد في حديث تلفزيوني ، ان أضرارا كبيرة لحقت بوسط مدينة معرة النعمان وخاصة تمثال أبي العلاء المعري وخاني مراد باشا وأسعد باشا والمتحف التاريخي بالمعرة والسوق الذي يعتبر كنزا تاريخيا مهما وذلك بسبب تمركز "الجيش الأسدي هناك".
واضاف بديوي "لا ندري حقيقة ماذا بقي وماذا سرق من المتحف من قبل العناصر والضباط الذين تمركزوا بالمتحف التاريخي لأنه لا يوجد لدينا لوائح ولم يعد الموظفون العاملون لإحصاء محتويات المتحف".
واتهم بديوي النظام السوري بأنه أهمل الآثار التاريخية في معرة النعمان وريفها "لأنه لم يكن يهتم إلا ببقائه في الحكم وتزوير تاريخ سورية ليبدأ من عنده ومن عند آل الأسد".
وتساءل بديوي عن موقف المنظمات الدولية المعنية بالآثار من القصف المتواصل على الأماكن الأثرية في طول سورية وعرضها، وتابع "النظام أهمل الآثار سابقا وقصفها لاحقا فدمر تاريخنا كما يريد أن يدمر مستقبلنا.
في هذه الاثناء، قال الناطق الإعلامي باسم جمعية حماية الآثار السورية جابر بكر ، إن هناك مناطق أثرية عدة تمثل للسوريين تاريخ بلدهم تعرضت للتدمير "لأنها كانت ربما بحكم الصدفة وربما بحكم أن سورية هي بلد عريق مليئ بالآثار، في أماكن النزاع المسلح وهي المحافظات التي تحتوي على مساحات شاسعة من الآثار".
وعلى رغم تبادل النظام والمعارضة الاتهامات بشأن استهداف المواقع الأثرية ، لكن (بكر) أكد على المسؤولية السياسية والأخلاقية للحكومة السورية في حماية الإرث الإنساني والحضاري للبلاد، وأردف قائلا إنه من "الواضح تماما أن الخطأ الأكبر يقع على قوات النظام لأنها تمتلك الأسلحة الأكثر دمارا"، موضحا أنه "عندما تقصف قوات النظام أو مدفعيته كنيسة أم الزنار في حمص فهنا لا يمكن أن يقال إن هناك تناسبا بحسب قانون الحرب لأن هناك مثلا مقاتل يختبئ في كنيسة أم الزنار فأنا أقصف الكنيسة بالطائرات، في مفارقة". وقد أشارت تقارير إعلامية إلى إمكان
تورط عناصر من المعارضة في ما وصفته تلك التقارير بعمليات نهب للمتاحف بهدف تمويل عملياتها العسكرية الرامية إلى إسقاط النظام، وهو ما نفاه بكر.
وقال "الذي أستطيع أن أؤكده أن ليس هناك من قبل الثوار إلا ما وثقته جمعية حماية الآثار، أي عمليات سلب ونهب بقصد التجارة".
وأوضح أن هناك في المقابل عصابات دولية محترفة في سرقة الآثار تسللت إلى سورية عبر العراق وتركيا، وتعمل على نبش المواقع وسرقة المتاحف واستغلال حال الانفلات الأمني الذي رافق الثورة ومازال.
جدير بالذكر أن جمعية حماية الآثار السورية رصدت ما
تعرضت له عدد من متاحف البلاد وعددها 38 متحفا من انتهاكات واعتداءات وسلب ونهب.
وفي هذا الإطار، كشف بكر أن انتهاكات وقعت في 12 متحفا، كان أبرزها ما تعرض له متحف حمص الأثري الذي يعد من أهم متاحف البلاد، لأنه موجود على خط النزاع المسلح بين الجيشين الحر والنظامي، كما قال.
ولم تسلم القلاع والمساجد والكنائس التاريخية هي الأخرى من الاعتداءات.
وقال الناطق الإعلامي باسم جمعية حماية الآثار السورية إن "هناك أزمة حقيقية تهدد القلاع إذ أصبح من المؤكد أن عددا منها تحول ثكنات عسكرية ، مشيرا إلى ان ذلك يضعها تحت الخطر العسكري المباشر وبينها قلاع حمص وحماه وحلب، فيما تعرضت أخرى للدمار منها قلعة حارم وقلعة معرة النعمان في إدلب".
التحركات الدولية كثيرة ، حيث أطلق مثقفون سوريون العام الماضي نداء استغاثة لحماية الآثار والتراث الحضاري في سورية، ضمن مهرجان "وطن يتفتح في الحرية" في الدوحة وناشد بيانهم المجتمع الدولي والدول المجاورة العمل على حماية المواقع الأثرية السورية ومنع تهريبها والوقوف بحزم في وجه تخريب الإرث الحضاري الإنساني الذي تقوم به الآلة العسكرية للنظام السوري ومافيا تهريب الاثار المشكلة من أركانه ورموز فساده.
وفي الوقت نفسه دعا اﻟﺑﺮﻟﻣﺎن اﻟﻌﺮﺑﻲ إﻟﻰ ﺣﻣﺎﻳﺔ ﻛﻧوز ﺳورية اﻷﺛﺮﻳﺔ ﻣن اﻟﺗدﻣﻳﺮ وﺣذر ﻣن ﺗﻌﺮضها ﻟﻠﺳﺮﻗﺔ وطﺎﻟب ﺑﺈﺿﺎﻓﺔ ﻋﻣﻠﯾﺎت ﺗدﻣﯾر اﻟﻣواﻗﻊ اﻷﺛرﯾﺔ إﻟﻰ ﺟراﺋم اﻟﻧظﺎم.
وفي هذا الاطار ، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) أنها بوسائلها المحدودة تسعى لحماية المواقع الثقافية أثناء النزاعات المسلحة والمهددة سواء بالتدمير أو بعمليات النهب وتهريب القطع الأثرية كما يحصل في مالي وسورية، وتساءلت المديرة العامة لليونيسكو إيرينا بوكوفا عن طريقة حماية الإرث في سورية، مشيرة إلى أنه ليس أمرا ممكنا، لأننا لا نملك القوةالعسكرية".
غير أن الوكالة الأممية لا تبدو عاجزة تماما عن التصرف، ففيما يتعلق بمالي قالت بوكوفا بارتياح "أخطرنا مجلس الأمن الدولي الذي أدخل حماية الإرث الثقافي في القرارات التي تبناها"، وللمرة الأولى وصفت المحكمة الجنائية الدولية تدمير أضرحة أولياء في تمبكتو بأنها "جريمة حرب" وقد تفتح تحقيقا لمعرفة المنفذين.
وقال مساعد المدير العام للثقافة في اليونيسكو فرنسيسكو بندران، "إن زعزعة استقرار الحكومات تؤدي على الفور إلى تفعيل شبكات المافيا الدولية"، مشيرا إلى تهريب ممتلكات ثقافية تتراوح قيمتها بين 6 و8 مليارات دولار سنويا، وهي صناعة إجرامية منظمة مثل تهريب المخدرات أو الأسلحة، ويضيف ، اما بشأن سورية فانه "تخرج قطع أثرية من البلاد منذ أشهر عدة"، وتابع "نجري دروسا تدريبية عن بعد عبر الفيديو لحماية المتاحف"، مضيفا "أنه من الصعب جدا الحصول على معلومات،وينبغي الحصول على إذن من النظام إن أردنا الذهاب إلى مكان ما، ونحن وكالة تابعة للأمم المتحدة ولسنا قوة سرية.