القدس المحتلة - العرب اليوم
أُرسل يوم الثلاثاء إلى الصحافيين بلاغ رسمي من هيئة عسكرية، جاء فيه أن جهاز الأمن قرر إعادة التسهيلات للقطاع في ضوء الهدوء النسبي ببلدات غلاف غزة في الأيام الأخيرة، ووقف إطلاق البالونات المتفجرة. إذا استمر الهدوء، كما ورد، فستوسع إسرائيل مجال الصيد إلى 15 ميلاً في عمق البحر (نحو 27 كيلومتراً)، وتضيف 2000 تصريح للتجار من سكان القطاع.
نشر هذا البلاغ منسق أعمال الحكومة في المناطق، وهو صاحب السيادة الرسمي نيابة عن الجيش الإسرائيلي على المناطق الفلسطينية، ولكن البلاغ كان ثمرة اتفاق وصياغة بين مكتب رئيس الوزراء وجهاز المخابرات ووزارة الدفاع، في أعقاب وساطة مصرية. ليس صدفة أن يخبّأ بند التجار في المكان الثاني بعد مجال الصيد. فهذه بشرى كبرى لسكان غزة، وجهاز الأمن في إسرائيل يكون عرضة لنقد لاذع عندما يأتي لنشر مثل هذه البلاغات.
“ألفا تصريح للتجار”، كما ورد في البلاغ، معناه 2000 غزي يسمح لهم بالخروج إلى إسرائيل للعمل وجلب كثير من المال إلى الديار. ينتظر كلاً منهم أجرا يتراوح بين 400- 500 شيكل في اليوم. وإذا عمل شهراً كاملاً فبوسعه أن يكسب قرابة 10 آلاف شيكل صافية، نقية من كل ضريبة، نقداً. يدور الحديث عن واقع ألف شيكل وهو ما يعتبره سكان القطاع راتباً شهرياً محترماً، حيث معدل البطالة تجاوز الـ 50 في المئة. 400- 500 شيكل في اليوم، لألفي عامل يعني 20 مليون شيكل. هذه هي الزيادة المحتملة التي منحتها حكومة إسرائيل هذا الأسبوع للاقتصاد الغزي المضعضع. وسيضاف هؤلاء الــ 2000 إلى الـ 5500 من سكان القطاع الذين يعملون في إسرائيل الآن، وكانوا حصلوا على تصاريح الخروج في النصف الثاني من العام 2019.
تصريح العمل بالآلاف هو مطلب وضعته قيادة حماس على الطاولة قبل أكثر من سنة. واستغرقت إسرائيل زمناً كي توافق، ولكن ببطء وبالتدريج رضيت، وبفضل الضغط المصري المتواصل الذي جاء بوسائل لطيفة، وضغط حماس الذي جاء بوسائل أقل عاطفية. هناك من يسمي هذا ابتزازاً، ولكن متاهة غزة معقدة وليس فيها حل سحري، بحيث لا يمكن أن نلخص الأمر بكلمة أو كلمتين. قد تكون استجابة إسرائيل لسلسلة مطالب حماس منعت حربا كبيرة كادت تودي بحياة كثيرين من الطرفين، وإنجازاتها المحتملة يمكن أن نسجلها بوسائل أخرى.
صياغات ملتوية
هذه القصة مشجعة، ومخيبة للآمال ومسلية، مشجعة أيضاً، لأن إسرائيل على مدى السنين، درجت على جباية الضريبة من المواطن الغزي البريء على جرائم زعمائه. والحق في العمل وإعالة النفس والعائلة محفوظ لكل مواطن، وها هي إسرائيل تأتي وتمنح فرصة تشغيلية لقسم من السكان ممن لم يعملوا ضدها.
وهي مسلية، بسبب الصياغات الملتوية التي اختارها جهاز الأمن ليروي للجمهور في إسرائيل عن البشرى التي منحها لحماس. لو كان جهاز الأمن حراً في اختيار الكلمات، لكانت إحدى الهيئات التي ذكرت أعلاه ستخرج ببلاغ واضح للجمهور، بدلاً من الاختباء خلف هيئة عسكرية. بلاغ يقال فيه إنه تقرر منح سكان القطاع امتيازاً جديداً، يعزز قوة العمل الأجنبي في الاقتصاد الإسرائيلي، ويشجع الجيرة الطيبة بين غزة وإسرائيل في مسعى مشترك لقمع المحافل الكفاحية في القطاع.
أما العنصر المحبط في هذه القصة فينبع من الطريقة التي عرض فيها الأمر. قادة حماس يطرحون قائمة مطالب مدنية، وعندما ترفض، يخرجون إلى المعركة ويعودون في نهاية الفترة مع غنيمة. هذه سياسة تذكر بملاكم نشط ومبادر. صحيح أن إسرائيل لا تخسر لهذا الملاكم، ولكنها لا تضع أمامه نهجاً أو سياسة استراتيجية.
ثمة فضائل كامنة في سياسة الاحتواء الإسرائيلية؛ فهذه إزالة تدريجية للإغلاق، بطريقة مقنونة لا تعد تراجعاً سريعاً عن المفهوم الأصلي؛ ثمة توازن، وتصاريح خروج مقابل وقف البالونات. ولا توجد مخاطرة حقيقية على حياة الإنسان ولا انجرار للحرب. ولكن هذه السياسة قد تولد خطراً كبيراً؛ فإسرائيل تعوض أعداءها في الجنوب على أن العنف مجدٍ ويمكن أن تنتزع منها التسهيلات إذا ما تمت المواظبة على استخدام القوة. لو كان هذا نمطاً لمرة واحدة، لقلنا حسناً، ولكنه يكرر نفسه في السنة الأخيرة بدقة الساعة. في الحملتين الانتخابيتين السابقتين وكذا عشية اليوروفيجين استخدم زعماء حماس جهداً مركزاً وعنيفاً، وعادوا إلى الديار راضين.
الكل يريد الرقص
لو أن خطط السلطة الفلسطينية نجحت، لشهدنا هذا الأسبوع تصويتاً جارفاً في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضد مبادرة السلام الأمريكية المسماة صفقة القرن. لقد كان هذا جزءاً من حملة إعلامية دولية للسلطة هدفها نزع الشرعية عن صفقة القرن. “سنتوجه إلى مجلس الأمن حيث ستصوت لنا 14 دولة، وواحدة ستستخدم الفيتو”، قال صائب عريقات بثقة قبل أسبوعين. “من هناك سنواصل إلى الجمعية العمومية وسنحصل على أغلبية 175 دولة، مع دولتين معارضتين، الولايات المتحدة وإسرائيل”.
ولكن تبين لعريقات، “العقل” الديبلوماسي في مطبخ أبو مازن المصغر، ذلك الواقع المرير حين جلس في مجلس الأمن، قبل مرحلة من الجمعية العمومية. فمعظم الدول الأعضاء لم تؤيد الطلب الفلسطيني. حتى تونس، الشقيقة من الجامعة العربية، العضو المؤقت في مجلس الأمن، انهارت أمام الضغط الذي مورس عليها. ومشروع القرار الذي سعت السلطة لأن تطرحه أرسل إلى الجارور خوفاً من ألا ينال التأييد. وفحص الفلسطينيون وفهموا بأنهم لن يضمنوا الأغلبية الساحقة التي أملوا بها في الجمعية العمومية. وإذ ضاق بهم الحال، ألقى أبو مازن خطاباً معطى إعلامي أمام أعضاء مجلس الأمن، وهكذا تلخصت حملتهم الإعلامية في الأمم المتحدة.
من خلف الإحباط، اختبأ ضغط أمريكي شديد عن الدول المختلفة، خشية أن تصوت ضد مبادرة ترامب. بالنسبة للسلطة، فإنه ثناء كبير أن جند البيت الأبيض جل قوته كي يحبط خطوة دبلوماسية وضعها فريق من ثلاثة أو أربعة مسؤولين في المقاطعة. يمكنني أن أتخيل قادة حماس يجلسون في صالونات غزة، يشاهدون ما يجري أمام شاشة التلفزيون ويمتلئون حسداً على الشرعية الكبيرة التي تحظى بها السلطة في كل منصة دولية.
حتى قبل أن يحبط التصويت، فقد امتشقت عندنا الكليشيهات من المخازن. ليس لمثل هذا التصويت مفعول عملي، كما واسينا أنفسنا، إنه تصريحي فقط. وبشكل عام، فمن تهمه هذه الأمم المتحدة؟ فقد سبق لبن غوريون أن قال -وكان محقاً- إن الأمم المتحدة قفر. بالفعل، لا يوجد مفعول عملي للتصويت في الجمعية العمومية، ولكن عندما يعرب كل العالم برفع اليد تأييداً لك أو لتطلعاتك، ففي ذلك فخر كبير، بل ومعنى. في 29 تشرين الثاني 1947 ذهبنا إلى هناك وحصلنا في المحفل ذاته على قرار التقسيم التاريخي، وفيه دعوة لإنهاء الانتداب البريطاني وإقامة دولة يهودية إلى جانب دولة عربية. لم يقل أحد منذئذ بأن هذا كان تصويتاً عديم المفعول العملي، وأن الأمم المتحدة قفر. بل العكس، بدأت على الفور رقصات الفرح في الشوارع، ومنذئذ لم نتوقف عن الرقص.
قد يهمك أيضا:
إسرائيل تخطط لبناء 9 آلاف وحدة استيطانية في مطار سابق شمالي القدس
نبيل أبو ردينة يؤكد استعداد السلطة الفلسطينية لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل خلال أسبوعين