تونسية تتظاهر ضد حركة النهضة الإسلامية في تونس (صورة أرشيفية)
تونس ـ محمد صالح
تبدو التجربة الديموقراطية الهشة في تونس هي الأكثر نشاطًا وحيوية، مقارنة بغيرها من التجارب الديموقراطية في البلدان المجاورة لها، بعد عامين مروا على اندلاع شرارة الثوارات العربية في تونس، على يد المواطن التونسي محمد البوعزيزي، الذي تحول لرمز للثورة في العالم أجمع، بعدما أقدم على حرق نفسه
أمام الناس في بلدة سيدي بوزيد التونسية، معترضًا على الأحوال المعيشية الصعبة.
ومن الوهلة الأولى، يمكن القول بأن مرحلة التحول الديموقراطي في تونس تبدو واهنة وضعيفة، لاسيما وأن المظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها بلدة سيليانا قد أسفرت عن إصابة ما يزيد عن 200 متظاهر، بعضهم يعاني من إصابات خطيرة، نتيجة القسوة التي تنتهجها الشرطة في قمع الاحتجاجات، ما أفقد الحكومة التونسية المنتخبة الدعم الذي كانت تحظى به، والتي تتكون من ائتلاف نادر بين الإسلاميين والعلمانيين، وذلك بعد أن تخلى أعضاء البرلمان عن الأحزاب الحاكمة، كما دعا الرئيس نفسه إلى إجراء تعديل وزاري عاجل، بالإضافة إلى أن دستور البلاد الجديد الذي كان من المنتظر أن تكتمل صياغته قبل شهرين لم يصدر بعد حتى الآن.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو "هل بدأت مرحلة التحول الديموقراطي التونسية في الانهيار، أم أنها في طريقها الصحيح؟"، فقد لعبت الضغوط الاقتصادية دورًا هامًا في إشعال الثورات العربية، ولازالت هذه الضغوط الاقتصادية على حالها حتى الآن، فقد ارتفعت نسبة البطالة في تونس إلى 19 % خلال العام الماضي، ولم يطرأ عليها بعد أي تحسن، كما تزيد نسبة البطالة في أوساط الشباب إلى أكثر من 42 %، وما من شك في أن هذه النسبة من البطالة وحالة الركود الاقتصادي كانت وراء المظاهرات التي شهدتها سيليانا أواخر الشهر الماضي، ومن المتوقع أن تشهد الشوارع التونسية سلسلة من المظاهرات الاحتجاجية على مدى الأشهر المقبلة.
كذلك لم تتقدم أي من الأحزاب السياسية المتنافسة بأي أفكار جرئية، لانتشال البلاد من حالة الركود الاقتصادي، وقد حذر الرئيس التونسي منصف المرزوفي خلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي من أن الفقر بات يهدد تونس الجديدة، وقال بأن "البلاد سوف تشهد ثورة داخل الثورة، وأن الناس باتوا لا يخافون الحكومة الآن، وأنهم سوف ينطلقون إلى الشوارع إذا لم نمنحهم الأمل في تحسن أحوال البلاد".
وعلى الرغم من ذلك، فقد شهد التحول الديموقراطي المزيد من الظواهر الإيجابية على مدى العامين الماضيين، فعلى الرغم من فوز حزب النهضة الإسلامي بأول انتخابات بعد الثورة التونسية، إلا أن تونس استطاعت أن تتجنب حالة الاستقطاب والعنف، التي اتسمت بها مرحلة التحول الديموقراطي في مصر، و يرجع السبب في ذلك إلى أن حزب النهضة الإسلامي كان أكثر اعتدالاً وأكثر براجماتية من بقية الأحزاب الإسلامية الأخرى في المنطقة.
كما يرجع السبب كذلك إلى التقاليد التشريعية، التي ضمنت للثورة التونسية انتخاب جمعية لصياغة الدستور في تشرين الثاني/أكتوبر من العام الماضي، وأضف إلى ذلك عدم تدخل الجيش التونسي الصغير الذي لا تعنيه السياسة في الحياة السياسية التونسية.
وكان العديد من العلمانيين في تونس يتخوفون من قيام حزب النهضة بفرض ديكتاتورية أيديولوجية، أوقيود على حرية التعبير، والعودة إلى فاشيستية زين الدين بن علي، التي امتدت 23 عامًا، وقد كانت هناك بالفعل بعد الوقائع التي تدعم هذا التخوف، ففي آيار/مايو الماضي صدر الحكم بإدانة قناة "نسمة" التليفزيونية بالإخلال بالنظام العام، وانتهاك القيم الأخلاقية للإعلام، بسبب إذاعة فيلم رسوم متحركة، ينطوي على انتقادات دينية مهينة للدين الإسلامي، وتجسيد إله الكون في الفيلم، ورغم ذلك، فإن أسوأ توقعات العلمانيين من الحكم الإسلامي لم تتحقق بعد.
وعلى الرغم من حدة النقاش والجدال بين الإسلاميين والعلمانيين بشأن هوية تونس، إلا أن هذا الجدال والخلاف أسفر عن المزيد من الحلول الوسط، ولم يسفر عن انقسام عنيف، لا سيما وأن الإسلاميين يضطرون إلى التمهل عندما يواجهون معارضة شديدة لمقترحاتهم، وقد حدث ذلك عندما أعربوا عن أملهم في إدراج الشريعة الإسلامية في الدستور، ولكنهم سرعان ما سحبوا اقتراحهم، وقال زعيم الحزب راشد الغنوشي بعد التنازل "إن الشريعة حاسمة جدًا، وأن مفهومها لازال غير واضح في أذهان التونيسيين". كما تعهد الغنوشي بحماية حقوق المرأة، كما سحب مشروع مادة في الدستور تقول بأن "دور المرأة مكمل للرجل"، ومادة أخرى بشأن التعرض للمقدسات.
كذلك يحاول "حزب النهضة" تأسيس ديموقراطية برلمانية، باعتبار أن ذلك هو السبيل للحيلولة دون عودة سلطوية الرئاسة، ومع ذلك، يخشى الكثيرون من اكتساح الإسلاميين، ويقولون بأن النظام الرئاسي يحقق توازن مع النظام البرلماني.
و يواجه "حزب النهضة" تحديات كثيرة في التعامل مع الواقع السياسي في تونس، لا سيما وأن فشل التعامل مع الأزمات الاقتصادية قد وضع الائتلاف الحكومي تحت ضغوط شعبية مكثفة، كما أن تخلي ما يقرب من عشرين عضو في البرلمان عن الأحزاب العلمانية المؤتلفة مع حزب النهضة قد أدى إلى انخفاض نسبة الأغلبية في البرلمان، بالإضافة إلى ظهور حزب سياسي معارض جديد، وهو حزب "نداء تونس"، الذي تم إنشائه لمنافسة "حزب النهضة".
وفي المقابل، يجب الاعتراف بأن الحريات السياسية في تونس باتت مصونة، ولكن الأزمة الاقتصادية يمكن أن تقوض أركان كل ما تم إنجازه على الصعيد السياسي، ومع ذلك، تظل تونس هي أكثر التجارب الديموقراطية المفعمة بالأمل، نحو تحقيق ديموقراطية حقيقية، مقارنة بغيرها من التجارب الديموقراطية الأخرى في بلدان الثورات العربية.