فيلم "ماتركس 4"

تستعد هوليوود إلى إنجاز الأفلام المؤجلة التي كان من المفترض بها لو دخلت التصوير خلال مطلع العام، لكانت انتهت من هذه المرحلة، وباتت على شفير إنجاز مرحلة ما بعد التحضير، لتدخل جداول العروض في الأشهر القليلة المقبلة وحتى نهاية السنة.

والقسم الغالب من هذه الأفلام هو مسلسلات سينمائية معهودة مثل «ذا باتمان»، و«ماتريكس 4»، و«أفاتار 2». وهو أمر محسوم إنتاجياً، كون هذه الأفلام هي الأكثر رواجاً بين الجموع. لكن هناك عدداً لا بأس به من الأعمال المقتبسة عن روايات منشورة مثل فيلم غويليرمو دل تورو الجديد (الأول له بعد «شكل الماء») وعنوانه «زقاق الكابوس» (Nightmare Alley) المقتبس عن رواية لويليام ليندسي غريشام، وهذا إلى جانب فيلمه الآخر المنخرط في الإعداد «بينوكيو» المأخوذ عن رواية وشخصيات ابتدعها كارلو كولودي.

وهناك اقتباسات كلاسيكية أخرى، منها فيلمان عن رائعتين من روائع ويليام شكسبير، هما «ماكبث» و«الملك رتشارد» اللتان تعود إليهما السينما، كما إلى أعمال شكسبير الأخرى، على نحو متواصل. وفيلم آخر مأخوذ عن فانتازيا «سندريللا» وآخر عن رواية جورج فورث التي سبق وتحوّلت إلى مسرحية بعنوان «نواصل بمرح».

حيال هذه الاقتباسات سيعاود المهتمّون المقارنة بين النص الأصلي وبين الفيلم المُنجز، وهي العادة التي تُمارس منذ بدايات السينما؛ حيث تبرز الرغبة في إجراء هذه المقارنة تلقائياً، إما بغاية إثراء النقاش والنقد وإما لاختلاف قد يكون جوهرياً بين الأصل والنسخة الفيلمية؛ بحيث يستدعي الأمر تحليل المسألة أو طرحها على الأقل.

في الواقع العلاقة وثيقة بين الكتاب الروائي والفيلم، أدبياً كما تاريخياً. والواقع أنه ليس هناك إحصاء فعلي لعدد المرات التي استعارت السينما فيها أعمالاً روائية وحوّلتها إلى أفلام، كثير منها من أبرز ما عرفته من إنتاجات. نتحدث عن أفلام تمتد عميقاً في التاريخ، كما الحال مع ما استُلهم من روايات «ألف ليلة وليلة» والنسخ الأولى من «سيرانو دي برجيراك»، و«هاملت»، و«أليس في ووندرلاند»، و«كابينة العم توم»، و«دراكولا»، و«أحدب نوتردام»، و«البائسون»، والعديد سواها. هذه وسواها كثير أُنتجت من مطلع العقد الأول من القرن العشرين، وانتشرت بكثافة في العقد الثاني، ثم باتت منوالاً سنوياً دائماً منذ ذلك الحين.

وبعض أسباب الانتشار تعود إلى حقيقة أن النص الروائي يأتي - في معظم الحالات - متكامل العناصر، ويحفل بالنوعية التي تجذب جمهور الكتاب الكبير و- لاحقاً - جمهور السينما. وحين الاقتباس، إذا ما كان جيداً، يحافظ كاتب السيناريو على روح النص، وأحياناً على كثير من أحداثه لكنَّه يُضيف إليه العوامل التي لا غنى عنها، للتّخلص من إنشائيات الوصف، واعتماد بصريات المشاهد، واستبدال ما يرد في شكل وصف إلى سلسلة من المفارقات التي كثيراً ما تختلف عن النص الأصلي. وإذا ما كان الاقتباس جيداً، فإنّ ذلك سيفيد الفيلم من دون أن يؤذي النص.

هذا لا يعني أنّ كل اقتباس كان لزاماً عليه الالتصاق العضوي بالنص الأدبي. كذلك لا يعني أنّ حرية الفيلم في ترجمة النص الأدبي أمر مستنكر. هناك نصوص أمينة جيدة، ونصوص أمينة لدرجة الإسهاب والبلادة.

وهناك خروج عن النص الروائي يجعل المرء يترحّم على ذلك النص، وآخر يجعل المشاهد يقدّر كثيراً ما قام به صانعو الفيلم، لأجل بثّ روح فنية وبصرية كان النص الأصلي بحاجة إليها. وهناك عديد من النماذج تؤكد ذلك.

يتّضح ذلك، على نحو جلي، في اقتباس فرنسيس فورد كوبولا لروايتين أخرجهما، هما «قلب الظلام» لجوزف كونراد، التي نُشرت سنة 1902، و«العرّاب» لماريو بوزو التي نُشرت سنة 1969، وتحوّلت إلى فيلم سنة 1972.

«قلب الظلام» تحوّلت إلى فيلم بعنوان «سفر الرؤيا الآن» (Apocalypse Now) على يدي جون ميليوس وكوبولا، وحُقّق - بعناء شديد أثمر عن نجاح كبير - سنة 1979. استلهم كونراد أحداث الرواية الصعبة من رحلة قام بها في الكونغو قبل نحو عشر سنوات من إتمام روايته، وفيها أيقن أن الإنسان الأبيض ارتكب جرائم عدة بحق المواطنين والحيوانات، وكما يقول، إن «الأشياء كافة» بسبب الجنوح للثراء بصرف النظر عن الثمن المقترف في ذلك السبيل. كانت - حسب مؤرخين - رحلة صعبة لا بمقياس القيام بها في أواخر القرن التاسع عشر فقط، والجهد البدني الذي تتطلبه فقط؛ بل بمقياس ما انطبع في بال المؤلف من أفكار واستنتاجات نقلها بأسلوبه الوصفي المسترسل إلى روايته.

وسيلة كوبولا لتحقيق فيلم عجزت هوليوود سابقاً عن تحقيقه (بداية محاولاتها كانت عبر سيناريو وضعه أورسون وَلز في مطلع الأربعينات)، كانت نقل الأحداث من نهر الكونغو في القارة الأفريقية إلى نهر آخر في القارة الآسيوية. كذلك نقل الفترة الزمنية من أيام الكولونيات الاستعمارية في تلك الآونة إلى رحم الحرب الفيتنامية. اختزل كثيراً وأضاف كثيراً، وخرج بتوليفة تؤكد على الرعب الذي حفلت به تلك الحرب بالتزامن مع الرعب الداخلي للإنسان، وقد فقد هويته ووجهته الذاتية معاً.

وفي هذا الخصوص تجاوز الفيلم رواية كونراد ولو عن طريق عدم التعامل مع نصّها؛ بل مع روحها. الأمر ذاته، مع اختلافات جوهرية، حدث عندما تصدّى كوبولا لرواية ماريو بوزو، وحوّلها إلى أحد أفضل أفلام السينما، كما الحال مع «سفر الرؤيا» الذي سيبقى فريداً من نوعه كما كان حينها.

في رواية «العراب» وضع بوزو صيغة عصاباتية عنيفة ليسرد من خلالها تاريخاً. كوبولا حافظ على هذا الوضع؛ لكنه أضاف إليه عمقاً في الشّخصيات وفي الأحداث؛ بحيث لم يعد الفيلم مجرد سرد ما ورد في الرواية كما هو؛ بل كان رصداً اجتماعياً وتاريخياً وحتى سياسياً للمرحلة التي يتناولها.

هناك مناسبة أخرى ارتفع فيها مستوى الفيلم عن مستوى الرواية، هي تلك التي قام فيها ستانلي كوبريك ودايان جونسون باقتباس رواية ستيفن كينغ «ذا شاينينغ».

الرواية، بحد ذاتها، مجال آخر من مجالات الكاتب كينغ لتناول أحداث رعب ناتجة عن أرواح شريرة وقدرات غرائبية غير مفسَّرة. من البداية قرر كوبريك أن من حقه، طالما سيُخرج الفيلم بنفسه، تغيير ما لا يراه «كوبريكيا». وما لم يره هو الالتزام بحكاية وجدها عادية، تصلح لفيلم رعب بسيط. كوبريك استغنى عن تلك الغرائبيات المتكاثرة وحصر ما أراده منها في شخصية الطفل الذي تتراءى له أحداث مستقبلية، ووالده الذي يفقد عقله فتتراءى له أحداث غير واقعية يعتقد أنّها تحدث معه.

لم يرض كينغ عن هذا الوضع؛ لكن كوبريك لم يبال سابقاً عندما حقق «لوليتا» سنة 1962، عن رواية لفلاديمير نابوكوف (المنشورة سنة 1955)، مستخلصاً منها الفكرة، ومحافظاً على أبعادها العاطفية الشخصية، في الوقت الذي استبعد فيه السّرد الزمني للأحداث، والتتابع الوارد في الرواية أصلاً.

كوبريك غيّر كثيراً من كل فيلم اعتمده عن رواية (أي معظم أفلامه)، بما فيها «كلوكوورك أورانج» و«دكتور ستراجنلوف»؛ لكن التحدي الأهم الذي واجهه - وقد اشتهر بتعلقه بالتفاصيل وهوسه بالكمال - كان نقل رواية ويليام ماكبيس تشاكراي «باري ليندن» المنشورة سنة 1844، إلى فيلمه الذي أنجزه سنة 1975. بداية، نشر تشاكراي روايته كمسلسل من حلقات عديدة.

وما قام به كوبريك هو إيجازها إلى كيان فيلم واحد يسرد حكاية ذلك الشّاب الذي استغل كل ما استطاع استغلاله من مفارقات وشخصيات، للانتقال من الفقر إلى الثراء، قبل أن يخسر معظم ما حققه في النهاية.

بالطبع لم يكن كوبريك وحده من حوّل رواية رعب كتبها كينغ وصنع منها عملاً أفضل على الشاشة. برايان دي بالما فعل ذلك في «كاري» (1976)، وروب راينر تبعه في «بؤس» (Misery) سنة 1987. في كلا الحالتين الفيلمان أفضل من الروايتين.

وإذا كان هناك من يناقش هذين الفيلمين على غير هذا الاستنتاج، فإنّ المثال الصارخ كامن في فيلم فرانك دارابونت «شوشانك ريدمشن» (1994) الذي تحسّن كثيراً بعد ترجمته إلى صور عمّا كان عليه ككلمات.

في أفضل الأحوال كثيراً ما يأتي الفيلم جيداً بالمستوى نفسه مع الرواية. علينا هنا أن نذكر – كمثال - فيلم كونتِن تارنتينو «جاكي براون» (1997)، المقتبس عن رواية «روم بَنش» (Rum Punch) كما وضعها المؤلف البوليسي إلمور ليونارد سنة 1992. هو الفيلم الوحيد الذي اقتبسه تارنتينو عن رواية تميّزت بحبكة معقّدة وكثيرة التفاصيل، ونقلها إلى الشاشة على النحو نفسه مكتفياً ببعض التعديلات، من بينها نقل البطولة إلى امرأة أفرو- أميركية، عوضاً عن إبقائها بيضاء.

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا : 

شكسبير كتب أروع أعماله أثناء تفشّي الطاعون بعد إغلاق المسارح

مُؤرِّخ مسرحي يكتشف المنزل الذي كتب فيه شكسبير "روميو وجولييت"