الحرب التجارية بين واشنطن وبكين

أخذت الحرب التجارية بين واشنطن وبكين خلال الأسبوع الحالي منعطفًا غير متوقع من الصين التي تركت قيمة عملتها المحلية تتهاوى بشكل حاد، واستجابت الولايات المتحدة للأمر رسميًا بتسمية الصين «متلاعبًا دوليًا بالعملات»، وكشفت المواجهة المشار إليها عن تركيز الإدارة الأميركية على ضعف العملات الأجنبية – والقوة المقابلة للدولار الأميركي – على اعتباره يشكل «عبئًا» على اقتصاد الولايات المتحدة.

والآن، يراهن المستثمرون على احتمالات تدخل الولايات المتحدة بنشاط في الأسواق المالية، فيما سوف يعد خرقًا كبيرًا للالتزام المعلن منذ عقود طويلة للعملات العائمة الحرة.

ويقول مايكل فيرولي كبير خبراء الاقتصاد لدى «جيه بي مورغان تشيس»، «إنه أمر مهم للغاية لاعتقادي أنه يشكل مرحلة جديدة في الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع الاقتصاد الدولي»؛ لكن، وفي حين أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرغب في إضعاف قيمة الدولار، إلا أن التخطيط لذلك من الأمور المعقدة. وفيما يلي السياق الواجب الانتباه إليه لفهم منهج الولايات المتحدة المتغير إزاء الدولار.

وعن وجه الاستفادة من الدولار الضعيف، قال الخبير فيرولي، "العملة الضعيفة تجعل صادرات الدولة أرخص بالنسبة للمشترين في الخارج؛ مما يمنح الدولة ميزة تنافسية في مواجهة البلدان الأخرى؛ وخلال السنوات الماضية، كان اليوان الصيني – الضعيف اصطناعيًا – يدعم النمو الصيني كقاعدة تصنيعية لأرجاء العالم كافة.

وكانت الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة على السلع الصينية تهدف إلى رفع أسعار تلك المنتجات بمجرد دخولها الأراضي الأميركية، ودفع المواطنين الأميركيين إلى الإحجام عن شرائها، كما أن إحدى وسائل الصين للرد على تلك الإجراءات هي إضعاف عملتها المحلية بهدف تقويض آثار الرسوم الجمركية بأن تجعل منتجاتها أرخص سعرًا.

وأضاف "لذلك السبب؛ عندما سمحت الصين بانخفاض سيطرتها على اليوان بشكل حاد مقابل الدولار في يوم الاثنين، اعتبر المراقبون الأمر علامة على اشتداد إيقاع الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين. وتعززت قيمة العملة منذ ذلك الحين؛ مما أسفر عن تهدئة التوترات بدرجة ما، لكن الصين ليست الشريك التجاري الوحيد الذي يعاني من مشاكل مع الرئيس الأميركي".

وقال، "على سبيل المثال، في يونيو (حزيران) الماضي، بعد إعلان البنك المركزي الأوروبي أنه قد يعيد تفعيل برامج التحفيز المالي لدعم اقتصاد الاتحاد الأوروبي، وجه الرئيس ترمب الاتهامات إلى الاتحاد بتخفيض قيمة اليورو، «مما يجعل من منافستهم - غير المنصفة - للولايات المتحدة أمرًا يسيرًا»".

وقال الرئيس ترمب مغردًا على «تويتر»؛ «لقد كانوا يفعلون ذلك من دون مراعاة لأحد طيلة السنوات الماضية، جنبًا إلى جنب مع الصين».

وللدولار الضعيف فوائد أخرى، فمن شأنه تعزيز أرباح الشركات على سبيل المثال؛ فهناك 40 في المائة تقريبًا من أرباح كبريات الشركات الأميركية تنشأ من الخارج، وضعف الدولار يعني مزيدًا من إسهامات المبيعات الخارجية في الحد الأدنى من الأرباح. ومن شأن الأرباح المرتفعة المساعدة في تعزيز أسواق الأسهم الأميركية. ولا أسرار في ذلك؛ لكن في الماضي كانت الحكومات تتهرب مترددة من إضعاف قيمة عملاتها المحلية، بسبب خشيتها من أن يسفر الأمر عن ارتفاع كبير وسيئ في التضخم، الذي كان يُنظر إليه تقليديًا بأنه من أكبر مخاطر العملات الضعيفة. وفي هذه الأيام، أصبح التضخم حول العالم منخفضًا بمعدلات لا تُصدق مع القليل للغاية من علامات الارتفاع هنا أو هناك.

ويقول آلان راسكين كبير المخططين الاستراتيجيين في «دويتشه بنك» فرع نيويورك، «لدينا الخلفية الكلية شبه الكاملة المشجعة لصناع السياسات على إضعاف العملة».

وعن تحوُّل الأمر إلى سلاح تجاري، قال فيرولي، "تعتبر أسواق العملات الأجنبية كاللعبة «صفرية النتائج»؛ إن انخفضت العملة الصينية مقابل الدولار فإن الدولار يتعزز في مقابل العملة الصينية بحسب التعريف. لذلك؛ سواء تعمدت الصين تخفيض قيمة اليوان أو تراجع اليورو بسبب قلق تجار العملات بشأن النمو الاقتصادي في المنطقة، فإن الأثر النهائي في كلتا الحالتين هو الدولار الأميركي القوي. وتميل العملات القوية إلى إضعاف صادرات البلاد وتعزيز استهلاك المنتجات الأجنبية؛ مما قد يؤدي إلى ارتفاع العجز التجاري بصورة كبيرة. وجعل الرئيس ترمب من تخفيض العجز التجاري مع الصين هدف إدارته المحوري، ونقطة حاسمة من وراء حرب الرسوم الجمركية التي اندلعت في عام 2018. بيد أن هذه الإجراءات عادت بنتائج متفاوتة حتى الآن. إذ اتسع العجز السلعي الأميركي مع الصين بالغًا رقمًا قياسيًا هو 43 مليار دولار في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قبل أن يتراجع بصورة كبيرة منذ ذلك التاريخ. وهو يحوم الآن حول 30 مليار دولار في الشهر".

وأضاف "من الناحية النظرية، إذا انخفضت قيمة الدولار مقابل اليوان الصيني، فمن شأن ذلك أن يحقق الكثير على صعيد تقليل العجز التجاري مما يمكن للرسوم الجمركية تحقيقه إن استمرت، ومن المحتمل أن يقدم للرئيس الأميركي فرصة تحقيق الانتصار السياسي في الانتخابات الرئاسية في العام المقبل. وغرد الرئيس ترمب في يوليو (تموز) الماضي قائلًا: «تتلاعب الصين وأوروبا كثيرًا بالعملات، وتضخان الكثير من الأموال في نظمهما الاقتصادية بهدف التنافس مع الولايات المتحدة، وينبغي علينا مواكبة الأمر؛ وإلا سنكون مثل الحمقى الجالسين في أدب وهم يشاهدون البلدان الأخرى يواصلون ممارسة ألعابهم – تمامًا كما فعلوا طيلة السنوات الماضية!».

صعوبات كبرى

وإن استطاعت البلدان الأخرى إضعاف قيمة العملات، فلماذا لا تفعل الولايات المتحدة الأمر نفسه؟ هي تستطيع ذلك من الناحية النظرية، لكن الأمر لن يكون سهلًا من الناحية العملية أبدًا.

يرجع الأمر جزئيًا إلى أن أسواق العملات كبيرة للغاية. إذ يجري تداول أكثر من 5 تريليونات دولار من العملات على مستوى العالم في تلك الأسواق يوميًا، وهناك 4 تريليونات دولار من تلك التداولات تتعلق بالدولار الأميركي.

وتسيطر الصين على اليوان نظرًا لأنها تستطيع الاستعانة بالقوة الشرائية اللانهائية في مصرفها المركزي، الذي ينشر السعر الرسمي للعملة في كل يوم يسمح فيه المصرف بمقدار معين من التداول في العملة.

ويملك المصرف المركزي الصيني المقدرة على طباعة اليوان بهدف إضعافه في حالة ارتفاع سعر الصرف لأكثر من المطلوب. وعلى الجانب الآخر، تحتفظ الصين بنحو 3 تريليونات دولار من الاحتياطي الذي يمكنها ضخه في الأسواق لمنع العملة المحلية من بلوغ مستويات الضعف الخارجة عن السيطرة.

ولا تعمل الولايات المتحدة الأميركية بهذه الطريقة في الآونة الراهنة. ولا يزال لديها بعض المقدرة على التدخل في الأسواق المالية من خلال استخدام صندوق استقرار أسعار الصرف، وهو الأداة المالية الخاضعة لسيطرة وزير الخزانة الأميركي مع ما يقرب من 100 مليار دولار من القوة الشرائية تحت تصرفه.

ويقول جوزيف غاغنون الزميل البارز لدى معهد «بيترسون للاقتصاد الدولي»؛ «ما لم يمنح الكونغرس وزارة الخزانة التفويض بتعزيز صندوق استقرار أسعار الصرف، فلن يكون لدى الوزارة الكثير من الزخم الذي تستعين به».

وفي الشهر الماضي، قال لاري كودلو، مدير المجلس الاقتصادي الوطني الأميركي، نظر البيت الأبيض في إمكانية التدخل لإضعاف الدولار قبل اتخاذ القرارات ضده، وفي اليوم نفسه، رغم ذلك، تناقضت تصريحات الرئيس ترمب مع السيد كودلو؛ إذ قال للصحافيين، إن الخيارات كافة مطروحة أمامه على الطاولة. وصرح الرئيس الأميركي قائلًا: «أستطيع فعل ذلك في وقت قصير إن أردت، ولم أقل إنني لن أفعل شيئًا حيال الأمر».

وفي الماضي، عندما أراد الساسة الأميركيون تغيير قيمة الدولار، كان يتوجب عليهم تنسيق الجهود مع عدد من البلدان المعنية. وهذا ما حدث في عام 1985، عندما خططت الولايات المتحدة لاتفاقية تهدف إلى إضعاف قيمة الدولار كجزء من اتفاق كان معروفًا باسم «اتفاق بلازا».

وبطبيعة الحال، كانت تلك البلدان هم الحلفاء الاستراتيجيون للولايات المتحدة؛ غير أن إقناع الصين حاليًا بتعزير قيمة عملتها المحلية لمساعدة الولايات المتحدة الأميركية على أضعاف قيمة الدولار، هو موقف مختلف تمامًا.

قد يهمك أيضًا

تراجع الأسهم داخل أسواق الخليج نتيجة الحرب التجارية بين أميركا والصين

21.3 بليون دولار مساهمة "طيران الإمارات" في اقتصاد الولايات المتحدة