الاقتصادات الكبيرة تتأرجح بين مخاوف الركود وآمال العبور مع قرب استنفاد المحفزات

استمرَّت التوترات الناجمة عن تصاعد الحرب التجارية في ظل إعلان الولايات المتحدة والصين عن زيادة جديدة في رسوم الجمركية، إلى جانب المخاوف المتزايدة بشأن النمو العالمي، مما أدى إلى اضطراب الأسواق المالية في أغسطس /آب الماضي؛ إذ انخفضت مؤشرات الأسواق الرئيسية للأسهم ما بين 1 و5 في المائة خلال الشهر وسط تقلبات عنيفة.

وشهدت أسواق السندات تحركات أوسع، حيث انخفض عائد سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات بأكثر من 50 نقطة أساس إلى أقل من 1.5 في المائة، في ظل توقعات تشير إلى استمرار الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي تتبعه البنوك المركزية الأخرى، في خفض أسعار الفائدة لمواجهة حالة عدم اليقين.

كما لم تنجُ أسواق النفط من الاضطرابات، حيث هبطت أسعار مزيج خام برنت بنسبة 7 في المائة على خلفية حالة التشاؤم بشأن آفاق الطلب، هذا بالإضافة إلى أن تخمة المعروض لا تزال موجودة، رغم امتثال دول منظمة «أوبك» في خفض إنتاجها بنسب أكثر من المستويات المستهدفة.

ويؤكد محللون أن الاقتصادات الكبيرة تتأرجح حاليًا بين مخاوف الركود وآمال العبور إلى منطقة أكثر أمانًا بعد تجنُّب الحرب التجارية، علمًا بأن المحفزات بدأت تصل إلى نهايات تأثيرها الفعال، لا سيما البرامج التيسيرية النقدية وسياسات البنوك المركزية باتجاه خفض معدلات الفوائد، علمًا بأن تلك «البرامج» مستمرة منذ سنوات طويلة، وبدأت مفاعيلها تفتر قليلًا.

الولايات المتحدة

وأكد تقرير صادر عن دائرة الدراسات الاقتصادية الدولية في بنك الكويت الوطني أن الاقتصاد الأميركي مستمر في إظهار إشارات متباينة، مثل وجود اضطرابات في قطاع الصناعات التحويلية مقابل بيانات القطاع الاستهلاكي التي لا تزال في وضع جيد للغاية. فعلى سبيل المثال، بلغت قراءة مؤشر مديري المشتريات لقطاع التصنيع 50.3 نقطة في أغسطس (آب)، فيما يعد أدنى مستوياته المسجلة منذ عقد من الزمن نتيجة لتدهور الطلب على السيارات، وتراجع طلبيات التصدير على خلفية التوترات الناتجة عن الحرب التجارية ورفع الرسوم الجمركية.

من جهة أخرى، أظهر مؤشر مديري المشتريات الصناعي الصادر عن معهد إدارة التوريداتISM)) إشارة صريحة على انكماش نشاط القطاع. ورغم ذلك، ارتفع الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 4.1 في المائة على أساس سنوي في يوليو /تموز، كما أن مستويات الثقة ما زالت قوية مدعومة بقوة سوق العمل. كما كانت هناك أيضًا أنباء متفائلة حول البيانات المعدلة للحسابات القومية للربع الثاني من عام 2019، التي أظهرت ارتفاعًا في نمو مؤشر الاستهلاك الشخصي إلى 4.7 في المائة على أساس سنوي، ونحو 4.3 في المائة مقابل الربع السابق، رغم تخفيض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من 2.1 إلى 2.0 في المائة. ونظرًا لأن الإنفاق الاستهلاكي الذي ما زال يتمتع بوضع جيد، ويمثل 70 في المائة من الاقتصاد؛ فمن غير المتوقع حتى الآن أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي بشدة في الربع الثالث من العام، حيث يتوقع أن يتراوح ما بين 1.5 و2.0 في المائة.

إلا أن التحدي الذي يواجه «الاحتياطي الفيدرالي» أصبح أكثر صعوبة. فبعد خفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في شهر يوليو، يتعرض الفيدرالي لضغوط من كل من الأسواق المالية والرئيس دونالد ترمب لاتباع سياسات نقدية توسعية خلال الأشهر المقبلة، وأن ينجح في «استباق الأحداث» قبل تباطؤ الاقتصاد في المستقبل، وكذلك معالجة التضخم المنخفض، الذي بقي ثابتًا خلال شهر يوليو عند نسبة 1.6 في المائة على أساس سنوي، حسب مؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي الأساسي.

إلا أن آخر محضر اجتماع لمجلس الاحتياطي الفيدرالي أظهر أن أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة انقسمت آراؤهم حول قرار خفض الفائدة في شهر يوليو (تموز) الماضي، نظرًا إلى البيانات المتباينة. ومن جهة أخرى، تتبنى أسواق العقود الآجلة نظرة متشائمة، حيث تتجه في الوقت الحالي إلى تسعير خفض سعر الفائدة بمنتصف شهر سبتمبر (أيلول) الحالي، مع احتمالات تقارب 90 في المائة لخفضها مرة أخرى قبيل نهاية العام، علمًا بأن سياسة الاحتياطي الفيدرالي سوف تتأثر بقدرة الولايات المتحدة والصين على نزع فتيل الحرب التجارية، وهو الأمر الذي يبدو صعبًا رغم إعلان الطرفين عودتهما إلى طاولة المحادثات الرسمية خلال الأسابيع المقبلة.

أوروبا

وعن الاقتصاد الأوروبي، قال التقرير إنه لا يزال معرضًا بصفة خاصة لتسجيل معدلات نمو أضعف من المستويات العالمية، حيث تراجعت مبيعات التجزئة في الاقتصاد الألماني بنسبة أكبر من المتوقع، على أساس شهري في يوليو بنسبة 2.2 في المائة، في حين ارتفعت البطالة في أغسطس، مما زاد من المخاوف حول تأثير مواطن الضعف الخارجية على الاقتصاد المحلي.

ويُذكر أن الاقتصاد الألماني يُعدّ من أهم الاقتصادات الأوروبية، إذ يمثل نحو 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو، ويتميز باعتماده على الصادرات، كما تراجع الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني، وقد يستمرّ التراجع في الربع الثالث مما قد يضع الاقتصاد الألماني في منطقة الركود، أما بالنسبة لنمو اقتصاد منطقة اليورو، الذي تباطأ إلى 0.2 في المائة على أساس ربعي فقط في الربع الثاني من العام، فقد يرتفع بنسبة أعلى قليلًا من 1 في المائة في العام الحالي.

ومن المقرر أن يتجه المركزي الأوروبي نحو سياسة نقدية أكثر مرونة في منتصف سبتمبر، والقيام بخفض سعر الفائدة الحالي على الودائع البالغ - 0.4 في المائة، مع إمكانية إعادة برنامج شراء الأصول الذي انتهى في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلا أن هناك جدلًا دائرًا بين أروقة البنك المركزي الأوروبي حول فعالية الحوافز الجديدة، بما في ذلك الاختلالات المالية الناجمة عن أسعار الفائدة السلبية وعدد السندات المتاحة المؤهلة للشراء. ومن المرجَّح أن تتخذ كريستين لاغارد، التي من المقرر أن تحلّ محل رئيس البنك المركزي الأوروبي الحالي ماريو دراغي في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، موقفًا داعمًا للسياسة النقدية التيسيرية، وفي الوقت نفسه دعت الحكومات الأوروبية إلى بذل المزيد من الجهد من أجل تبني سياسات مالية تعمل على تحفيز النمو.

بريطانيا

أما في المملكة المتحدة، فقد اتخذ ملف انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي منعطفًا جديدًا بقيام رئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون، الذي يتطلع إلى تعزيز موقفه التفاوضي مع الاتحاد الأوروبي، بتعطيل أعمال البرلمان لمدة خمسة أسابيع بدءًا من منتصف سبتمبر للحد من المواقف المعارضة لتهديداته بانفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي دون اتفاق بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، إلا أن البرلمان أقر التشريعات اللازمة لمنع الانفصال «من دون اتفاق»، الأمر الذي سيجبر جونسون على مطالبة الاتحاد الأوروبي بتمديد جديد لمدة ثلاثة أشهر على الأقل.

وفي ظل رفض الاتحاد لذلك، يبدو أن إجراء انتخابات عامة قد يكون حتميًا في الوقت الحالي، التي قد لا تكون نتيجتها حاسمة للفصل في انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، لا سيما في حال أسفرت صناديق الاقتراع عن حكومة أقلية مع الالتزام بإجراء استفتاء ثانٍ.

وتستمر حالة عدم اليقين في الإضرار بالاقتصاد البريطاني، حيث تراجعت طلبات البناء والتشييد خلال شهر أغسطس بأسرع وتيرة تشهدها منذ 10 سنوات، ووصل الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته المسجلة في 34 عامًا عند 1.21 دولار في أغسطس الماضي.

اليابان

تباطأ النمو الاقتصادي في اليابان من 2.2 في المائة على أساس سنوي في الربع الأول من العام الحالي إلى 1.8 في المائة في الربع الثاني، متخطيًا التوقعات حول تسجيله تراجعًا أكبر، حيث ساهمت زيادة الإنفاق الرأسمالي في تعويض تأثير الضعف المستمر في القطاع الخارجي.

وأدى النمو القوي بالربع الثاني إلى تصاعد إمكانية رفع قيمة الضريبة الاستهلاكية من 8 إلى 10 في المائة والمخطط تطبيقها في أكتوبر المقبل. ويتوقع المحللون انكماش الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث إذا تم تطبيق زيادة الضرائب التي تأخرت كثيرًا، حيث تتفاقم الضغوط من قبل القطاع الخارجي، التي تضاعفت آثارها نتيجة لضعف معدلات نمو الاستهلاك.

وفي الوقت ذاته، قام «بنك اليابان» بتخفيض برنامج شراء السندات بوتيرة تُعدّ الأكبر منذ إطلاقه لسياسة التحكم في منحنى العائد، في عام 2016، وذلك بعد أن دفع الإقبال على شراء السندات بالعوائد لتقترب من أدنى مستوياتها القياسية. ويخطط «المركزي الياباني» في الوقت الحاضر لشراء سندات لأجل عشر سنوات بما يتراوح ما بين 250 و550 مليار ين ياباني في سبتمبر، مقابل شراء ما بين 300 و650 مليار ين في أغسطس.

الصين

وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن مؤشر مديري المشتريات الرسمي، ظل نشاط المصانع الصينية في منطقة الانكماش في أغسطس، عند مستوى 49.5 نقطة، وذلك في ظل الضعف المستمر للعوامل المحلية إضافة إلى تصاعد الضغوط التي تدفع في اتجاه تراجع القطاع الخارجي.

ورغم ارتفاع مؤشر الصناعات التحويلية للقطاع الخاص، بما يشير إلى نمو أنشطته في أغسطس عند 50.4 نقطة، فإن طلبيات التصدير قد واصلت تراجعها. وفي ظل الإشارات الدالة على استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية، خفض البنك المركزي الصيني تكاليف اقتراض الشركات في إطار مساعيه لتحفيز الاستثمارات وتعزيز النمو. وإذا استمر تصاعد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، فقد نشهد المزيد من التدابير الصينية الداعمة للنمو خلال الأشهر المقبلة. وفي الوقت ذاته، واصل اليوان الصيني سلسلة تراجعاته متجاوزًا 7 يوان مقابل الدولار الأميركي خلال شهر أغسطس للمرة الأولى منذ 11 عامًا، حيث بلغ في المتوسط 7.22 يوان للدولار، مقابل 6.88 يوان للدولار في يوليو الماضي.

قد يهمك ايضا : 

رجال الأعمال المصريون والسودانيون يتعهدون رفع التبادل التجاري

%35 زيادة في معدلات التبادل التجاري بين مصر والولايات المتحدة