الإسكندرية - أحمد خالد
سلطت سلسلة "مراصد " الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية في عددها الجديد الضوء على قضية التعددية الدينية "أقباط مصر نموذجا".
تأتي أهمية مناقشة إدارة التنوع الديني نظرًا لأنها من القضايا الأساسية التي تمثل محورًا لتعميق التجربة الديمقراطية، في حالة الإدارة الرشيدة للملف، أو سببًا للتوتر، وتقويض التجربة الديمقراطية إذا لم نلتمس الإدارة الرشيدة في المعالجة.
وتبين الدراسة التي أعدها الباحث المتخصص في المواطنة والمجتمع المدني سامح فوزي، و الباحث سمير مرقص وأحد المشاركين في وثيقة الأزهر، أن التوترات الدينية التي تكاثرت في العقود الأربعة الأخيرة كان لها أثرها في تهديد وحدة النسيج الاجتماعي المصري، وسمحت بظهور خطابات انقسامية، وتحركات طائفية، وحالات من المواجهة المباشرة على الصعيد الاجتماعي بين مسلمين ومسيحيين على خلفية سوء إدارة التنوع الديني.
وتنطلق هذه الدراسة من منحى مختلف، وهو النظر إلى مشكلات إدارة التنوع الديني مباشرة في سياق السياسات العامة Public Policies، من خلال اقتفاء سيرة المشكلات، والعوامل المختلفة التي أسهمت في تفاقمها، والحلول التي اُتُّبِعَت في فترات سابقة للتعامل معها، وبيان أوجه الفعالية والقصور فيها، وأخيرًا طرح حلول ذات طبيعة برنامجية وإجرائية للتعامل مع المشكلات القائمة في ضوء المستجدات التي طرأت على الملف الديني، ومواقف الأطراف المتباينة على الساحة السياسية.
وترمي هذه الورقة إلى النظر إلى المشكلات القبطية من منظور السياسات العامة، من خلال استعراض جوهر المشكلة، والبدائل المتداولة، والحلول الحالية، وطرح رؤى مستقبلية، وذلك من خلال أربعة أقسام.
ويقدم القسم الأول استعراض تاريخي موجز للمشكلات القبطية، بما يعني تتبعها، وتراكمها، والإخفاق في مواجهتها، بينما ينظر القسم الثاني في سوء إدارة التعددية الدينية في الثلاثة عقود الأخيرة.
ويطرح القسم الثالث عدد من الحلول البرنامجية والإجرائية للتعامل مع بعض المشكلات القبطية الملحة، انطلاقًا من خلفية مرجعية تستند إلى حقوق الإنسان، والخبرة الدستورية المصرية، والحقوق والحريات الأساسية المكفولة للمواطنين، بينما يقدم القسم الرابع مقترح برنامجي للتعامل مع القضية الأبرز في الملف الديني في مصر وهي "التوترات الدينية".
وتبين الدراسة في القسم الأول أنه تردد صدى المشكلات التي يعاني منها المواطنون المصريون الأقباط خلال القرن العشرين، وتفاقمت في السنوات الأخيرة منه، واستمرت في العقد الأول من مفتتح القرن الحادي والعشرين واختلفت طبيعتها من مرحلة لأخرى، كما تباينت درجة حدتها حسب طبيعة النظام السياسي السائد.
هذه المشكلات ليست جميعها قانونية - سياسية مثل بناء وترميم الكنائس، أو التمثيل السياسي للأقباط في المجالس التشريعية والنقابية المنتخبة، أو التعيين في المناصب العليا في جهاز الدولة، لكنها في جانب منها ذات طبيعة ثقافية مجتمعية، تتمثل في إنتاج نصوص طائفية تعمِّق الفرز والتمييز في المجتمع على أساس ديني، وتحول دون التلاقي الطبيعي بين المواطنين المصريين مسلمين ومسيحيين، وتخلق حالة من العزلة بالنسبة للأقباط، هذا إلى جانب شيوع أنماط من الصور الذهنية المتبادلة على الجانبين تحمل في ذاتها آثار انخفاض مستويات التلاقي بين المسلمين والمسيحيين، وتغلغل الخطابات الدينية المتشددة، وتصاعد الشعور بالاحتقان لدى الأقباط وقطاع من المسلمين على حدٍّ سواء.
وتوضح الدراسة في القسم الثاني أنه من خلال الاستعراض التاريخي الموجز السابق يمكن القول أنه لم يغب الحديث عن التوتر الديني في الحالة المصرية خلال القرن العشرين، كان ينمو ويخبو حسب الحالة السياسية والثقافية العامة في المجتمع. فإذا كان هناك مد وطني تراجع المد الطائفي، وإذا تراجع المد الوطني حل محله المد الطائفي، يملأ الفراغ، ويعبئ القوى، ويشغل الأذهان، ويتسبب في احتقان النفوس.
ورغم التنوع والاختلاف في كم وكيف الأحداث الطائفية، اتسمت إدارة هذه الأحداث - في العقد الأخير من عهد نظام مبارك - بملامح أساسية تجعل منها نموذجًا دراسيًّا على حالة الجفاف الفكري في التعامل مع ملف بالغ الأهمية والخطورة في آن واحد، بسبب غياب التصدي الجذري للمشكلات، وإضعاف السياسي والثقافي لصالح الأمني، وتنحية القانون والركون إلى الجلسات العرفية، وتوظيف "الإعلام" في إدارة المشهد "الديني"، وغياب الجهة المرجعية الجامعة.
وقد ترتب على الإدارة البائسة للشأن الديني التعددي في المجتمع المصري عدد من التداعيات التي عمَّقت من مشكلات التعايش الإسلامي المسيحي، وأضافت مزيدًا من التعقيد على المشكلات المتوارثة بدلاً من السعي لحلها، فضلاً عن تدعيم الارتباك على المستويات كافة كلما وقع حادث من أحداث التوتر الديني.
ويعد من أبرز تلك الأسباب الافتقار إلى رسم استراتيجية واضحة للتعامل مع الشأن الديني يتمثل ذلك في عدم وجود جهة مرجعية تتولى الشأن الديني بصفة عامة، وعدم وجود تراكم في التعامل مع الملف، وعدم وجود خبرات متراكمة؛ نظرًا للتسييس المفرط في التعامل مع الملف، والانفراد الأمني به وتنحية كل ما هو سياسي، والتوظيف السياسي المباشر للشأن الديني، من خلال رفع جرعة "المحافظة الدينية"، والتي تتخذ أحيانًا شكل التعصب في المجتمع لتحقيق التوازن مع إجراءات قمعية أمنية في التعامل مع الإسلام السياسي.
ويقدم القسم الثالث تصورات مقترحة للتصدي للمشكلات القبطية، ومنها بناء وترميم الكنائس.
وتبين الدراسة أن هناك اتجاهين أساسيين للتعامل مع هذه القضية، الأول يرى أنه من الضروري إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة، يُخضِع المساجد والكنائس لمتطلبات واحدة، أما الثاني يرى أنه - تجنبًا للمشكلات التي قد تنشأ من تطبيق القانون الموحد، يمكن استحداث نظام أيًّا كان مسماه "قرار جمهوري" أو "قانون" أو "لائحة"...إلخ، ينظم عملية بناء الكنائس على نحو منفصل، لاسيما أن هناك قرارًا صادرًا عن مجلس الوزراء في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2001 يضع تسعة متطلبات لبناء المساجد. ورغم أن هذه المتطلبات لم تُطَبَّق في الواقع العملي، فإن هناك دعوة خاصة من جانب "بيت العائلة" للآخذ بهذا الاتجاه.
وتقدم الدراسة بعض المقترحات العملية التي من شأنها دمج الأقباط في العملية السياسية، ومنها الإعداد للقاء وطني يعنى بقضية الاندماج الوطني على قاعدة المواطنة ويعمل على وضع الرؤى والتصورات والخطط التي تحقق الاندماج عمليًّا، وتبني حملة للأخذ وتهدف هذه الرؤية بداية إلى رصد بؤر التوتر في مصر، ومعرفة أسباب الحدوث واحتمالات الحدوث، وتقديم الاتجاهات الاستراتيجية والسياسات العملية للمواجهة.
وتتلخص الأهداف في دراسة خريطة التوتر الديني في المحافظات المختلفة، ورصد مظاهر التمييز الديني في المجال العام والتي قد تؤدي إلى توترات ومشاحنات، ورصد التمييز في الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية والسياسية، والمناهج التعليمية، التي قد تسهم في حدوث التوترات، ووضع البدائل والحلول العملية المناسبة لمواجهة التوترات التي قد تحدث وتحديد طبيعتها وتوصيفها بدقة من حيث التمييز بين الوقائع ذات الطبيعة الدينية والوقائع الاجتماعية، ووضع استراتيجية طويلة الأمد في المجالات الثقافية والتعليمية والإعلامية والقانونية وأخرى آنية مباشرة.
يذكر أن "مراصد" هي سلسلة كراسات علمية محكمة تعنى برصد أهم الظواهر الاجتماعية الجديدة، لاسيما في الاجتماع الديني العربي والإسلامي.
أرسل تعليقك