تقع آلاف الفتيات الأردنيات ضحايا ممارسة زواج الأطفال، الذي ينتهك حقوقهن عبر انتزاعهن من طفولتهن، وإيقاف تعليمهن، وتعريضهن لخطر العنف المنزلي، كما يلقي بهن أمام أمومة مبكرة، تتقاطع مع طفولتهن المنقوصة، إذ تفيد إحصاءات رسمية بأنَّ 16% من الولادات في أكبر مستشفيات الأردن عام 2013 تعود لأمهات دون سن العشرين، وتتعرض قاصرات لعنف جنسي وجسدي في منازل أهل الزوج، وفق استطلاعات مستقلة، فيما تنتهي الحال ببعضهن إلى طلاق مبكر.
وكان الحد الأدنى للزواج في الأردن 15 عامًا للفتيات، و16 عامًا للفتيان حتى عام 2001، تاريخ تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي يحدّد السن الأدنى للزواج بثماني عشرة عامًا لكلا الجنسين.
وتضمّن القانون المعدل ثغرة تنص على أنه "يجوز للقاضي أن يأذن بزواج من لم يتم منهما هذا السن إذا كان قد أكمل الخامسة عشرة من عمره، وكان في مثل هذا الزواج مصلحة تحدّد أسسها بمقتضى تعليمات يصدرها قاضي القضاة لهذه الغاية".
وتظل هذه التعليمات فضفاضة، وتخضع لأمزجة منفذي القانون وأهوائهم، حيث يكشف تحقيق استقصائي فشل التعديلات على قانون الأحوال الشخصية في حماية فتيات قاصرات من الزواج المبكر، فتلك الفجوة جعلت من "الاستثناء" قاعدة، في ضوء منح القضاة سلطة منفردة للموافقة على زواج أطفال، في غياب مراقبة مستدامة.
وكشف تحليل السجلات الرسمية بين عامي 1998 و2013 أنَّ "التعديلات على قانون عام 2001، لم تؤتِ المقاصد منها، إذ أسفرت عن انخفاض طفيف في أعداد زيجات الطفلات، تراوح بين 4-6%، ولم تنخفض نسبة هذه الشريحة من إجمالي الزيجات طيلة العقد الماضي، إذ بقيت ثابتة عند مستوى 13% من الرقم الكلي.
وتعدّ الفتيات أكثر عرضة من الفتيان للتزويج دون السن القانوني، إذ تؤكد تقارير دائرة قاضي القضاة السنوية للأعوام 2003 وحتى 2013 أنَّ "مجموع عدد الفتيات التي تزوجن دون سن الـ 18 بلغ 79.686، أي ما يعادل 12.8% من المجموع الكلي للزيجات، مقابل 2.429 لفتيان قاصرين 0.36% من المجموع الكلي للزيجات البالغ 695.187 في الفترة ذاتها.
وتشمل تعليمات دائرة قاضي القضاة، الموجهة إلى القضاة للموافقة على زواج من هم دون الثامنة عشرة، والمتوافرة على الموقع الإلكتروني لرئاسة الوزراء، ونشرت في الجريدة الرسمية فقط في عام 2010، أنّه على القاضي أن يتحقق من الرضا والموافقة التامين للزوجين، ويتحقق من صحة "الضرورة" التي تقتضيه المصلحة من الزواج، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية، ما يؤدي إلى تحقيق منفعة أو درء مفسدة، ويجب أن تراعي المحكمة ما أمكن وفق مقتضى الحال وجود مصلحة ظاهرة في الإذن بالزواج، مثل التأكد من أن فارقّ العمر بين الخاطبين مناسبًا، وألاّ يكون الزواج مكررًا، وألّا يكون الزواج سببًا في الانقطاع عن التعليم المدرسي.
ولم يكن مشهد زواج الفتاة سارة فريدًا في المحاكم الشرعية الأردنيّة، حيث تتزوج بين 8 آلاف و10 آلاف فتاة قاصر سنويًا؛ نحو 13% من إجمالي عقود الزواج التي تبرم في المملكة.
وأطل وجه الشابة سارة بتميّز، وكذلك الدافع وراء مجيئها إلى المحكمة، فهي هنا لكتب كتابها، وتوقيع عقد قران على خطيبها ابن الثالثة والعشرين، بعد يوم واحد فقط على بلوغها سن الخامسة عشرة.
وروت سارة تجربتها تلك قائلة "أصوات المراجعين في محكمة جنوب عمان الشرعية تصم الآذان في يوم صيفي حار، صرير الأبواب وطقطقة الكعوب العالية تختلط بهمهمات جموع من الرجال والنساء ينتظرون مناداة موظفي المحكمة للمثول أمام القضاة الشرعيين"، متذكرة بأسى كيف وجّه إليها القاضي سؤالًا وحيدًا مقتضبًا، أثناء المقابلة، التي دامت عشر دقائق "هل تريدين الزواج منه أم أنَّ أحدًا أجبرك؟"، وهو ما أجبات عليه بـ"أريد الزواج، ثم أبرم عقد الزواج في لحظات.
وأكّدت عرائس طفلات وعائلاتهن أنَّ "آلية الموافقة على عقد القران كانت أكثر سهولة مما تذكره التعليمات"، حيث لا يطرح القاضي إلا سؤالًا واحدًا لتقييم "المنفعة" من زواجهن، وهو "هل تريدين الزواج منه أم أن أحدًا ما أجبرك؟".
وتبدو عقود زواج العرائس الطفلات على الورق تمامًا مثل عقود زواج الراشدين من سن الثامنة عشرة فما فوق، فهي لا تذكر في أي موقع فيها الأسباب التي حدت بالقاضي لأن يقبل الزواج، فيما تفيد دائرة قاضي القضاة بأنَّ قضاتها يوثقون أسباب الموافقة على الزواج، ولكنها ترفض السماح بالوصول إلى تلك الوثائق.
واعتبرت الباحث في مجال حقوق المرأة في الشرق الأوسط في منظمة " هيومان رايتس ووتش " روثنا بيغوم أنّ "الأردن تفشل، على الرغم من أنّ تحديد سن الثامنة عشرة كحد أدنى للزواج هو إنجاز للمملكة، في تنفيذ التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان لحماية آلاف الفتيات من زواج الأطفال".
وأشارت إلى أنَّ " الأردن وقّع اتفاق حقوق الطفل، واتفاق القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) عامي 1991 و1997 على التوالي".
وليست زيجات الأطفال هذه مجرد انتهاك للمواثيق الدولية فقط، ولكن للقانون الوطني كذلك، حيث أنه في الأردن، سن الثامنة عشرة هو الحد الأدنى للحصول على رخصة قيادة، والانضمام إلى حزب سياسي، والتصويت في الانتخابات البلدية والبرلمانية، وكذلك التقدم بشكوى ضد طرف آخر، وفتح حساب بنكي، والمسؤولية عن الأموال الخاصة.
وتساءلت المحامية والناشطة في حقوق الإنسان في اتحاد المرأة الأردنية هالة عاهد "إذا كان القانون يشكك في القدرة على التصويت لنائب أو قيادة سيارة تحت سن الثامنة عشرة، فكيف يستطيع أي كان أن يتوقع منهن أن يرأسن عائلات، ويربين أطفالًا في ذلك السن".
وعلى الرغم من أنَّ لزواج الأطفال تقاليد راسخة في الثقافة العربية التي تعلي "سترة" الفتاة، إلا أنَّ هذا السبب لم يعد الدافع الوحيد وراء انتشار زيجات "الصغيرات" في الأردن. حيث باتت زيجات الفتيات جوابًا جاهزًا للمصاعب المالية، والمشاكل العائلية، و"الفضائح الاجتماعية" المحتملة.
واحدة فقط من الطفلات اللواتي شملهنّ الاستقصاء، والبالغ عددهن ثماني فتيات، أكّدت أنَّ زواجها جزء من تقليد عائلي طويل الأمد، بينما الغالبية الساحقة من الفتيات قلن إن زواجهن جاء نتيجة صعوبات مالية تواجهها عائلاتهن.
وكشفت إسراء، البنت الرابعة، التي تزوجت صيدلانيًا دخله "محترم"، أنها كانت تعلم أنَّ أباها، الذي بالكاد يصل دخله الشهري الى 250 دولارًا، لن يتمكن من إرسالها إلى المدرسة، وأنها لن تستطيع أن تسمي الشقة المكونة من غرفتي نوم التي تسكن فيها في جبل النزهة المكتظ بيتًا لها لبقية حياتها، مشيرة إلى أنّه "لطالما كان والداي يقولان إنهما يشعران بالراحة في كل مرة تتزوج فيها واحدة منا".
وتوصل مكتب يونيسف في الأردن، في دراسة حديثة، إلى أنَّ "الفقر كان سببًا رئيسًا وراء زيجات طفلات بين الأردنيين، لاسيما عند وجود بنات كثر في البيت"، مبرزًا أنه "في بعض الحالات الشديدة، تمّ الزواج في إطار صفقة بين الأهل والعريس، الذي دفع مهرًا كبيرًا".
ورأت الناشطة في حقوق الإنسان، و رئيس المؤسسة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر، تغريد حكمت أنه "ترقى هذه الحالات إلى اتجار بالبشر، ويجب محاسبة الأهل على ذلك"، لافتة إلى رواية فتاة تبلغ من العمر 18 عامًا، والتي زّوجت من صديق العائلة مقابل مهر قدره خمسة آلاف دينار (سبعة آلاف دولار)، وروت أنه "في إحدى المرات، ركضت حافية إلى منزل أهلي. ولكن أبي لم يكترث ليسمع ما جرى لي وأعادني إلى منزل زوجي السابق مقابل مئة دينار (140 دولارًا)".
ويفيد تقرير المسح الصحي الديموغرافي، الذي نشرته دائرة الإحصاءات العامة عام 2012، بأنَّ 40% فقط من النساء المتزوجات بين 15 و 19 من العمر كن قادرات على اتخاذ "بعض القرارات" التي تتعلق بشراء أشياء شخصية، مثل الصحة الشخصية، وزيارة العائلة والصديقات.
وطبقًا لأرقام وزارة التربية والتعليم، فإن نسبة الفتيات اللواتي يتركن المدرسة تتزايد في المرحلة الثانوية، وتستمر بعد الصف العاشر (المرحلة الثانوية من العاشر إلى الثاني عشر- توجيهي)، ما يجعل نسب التسرب بين 0.52% للفتيات مقابل 0.31% للفتيان.
وتقلب سارة بعضًا من صور بقيت في ألبوم عرسها، وهي تتحدث عن زواجها قبل سبعة أشهر، هذا الزواج الذي سرق منها طفولتها. وتظهر الصور سارة وهي تلبس فستانًا منفوخًا وتضع على وجهها طبقات من المكياج الثقيل.
وقالت "في يوم الزفاف قالت لي أمي أنت أصبحت امرأة الآن ويجب أن تجعلينا فخورين بأنك زوجة صالحة وكنّة (زوجة ابن) صالحة"، وتستذكر سارة رحلة الانفصال المفاجئة عن الطفولة، إذ أنها لم تدرك وعورة الطريق الذي كانت ستسلكه بعد انتهاء الحفلة، "كانوا يتوقعون مني أن أطبخ طبخًا ممتازًا، أنظف البيت وأرعى أشقاء زوجي الصغار".
وتنازلت سارة، حتى تلبس الفستان المنفوخ، عن العديد من الأشياء العزيزة على قلبها، بما في ذلك حلم أن تصبح معلمة لغة عربية، "كان شرطه أن أترك المدرسة"، فيما تركت معظم الفتيات المدرسة مباشرة بعد الزواج أو بعد حفلة الخطوبة.
وأضافت سارة "بعد شهر واحد فقط من الزواج، استجوبتني حماتي لتعرف إن كنت حاملًا، وعندما بدا أن الجواب الأكثر احتمالًا هو النفي، أخذتني إلى ثلاثة أطباء نسائية وتوليد لفحص حالتي".
وتابعت "قالت الطبيبة إن رحمي نظيف مثل الذهب ولكن جسمي لا يزال ينمو"، تستذكر سارة مشيرة إلى أنَّ "أحد أسباب مشاحناتها المستمرة مع أهل زوجها هو أنها أجهضت تلقائيًا لأسباب صحية في ما بعد".
وتفيد العرائس الطفلات كافة بأنَّ الجميع كانوا يفترضون فيهن أن ينجبن مباشرة بعد الزواج، ثمانية وعشرون حالة منهن أنجبن قبل سن الثامنة عشرة، وخمسة منهن ذكرن تعرضهن لإجهاض.
ولا تتوافر في الأردن أبحاث أو معلومات كافية عن الأمهات المراهقات، ولهذا لم يتم التبليغ عن أيّة حالات وفاة أثناء الولادة قبل سن الثامنة عشرة.
وتظهر إحصاءات مستشفى البشير، وهو أحد أكبر المستشفيات الحكومية في الأردن، وجود 10811 حالة ولادة في عام 2013، من بينها 1726 حالة ولادة لأمهات دون سن العشرين، وتشمل هذه الأرقام أمهات يحملن أرقامًا وطنية أردنية، وتستثني اللاجئات السوريات والعراقيات.
وأوضح طبيب النسائية والتوليد في مستشفى البشير عبد المانع سليمان أنه "يحدث البلوغ في المنطقة بين سن الحادية عشرة والثالثة عشرة، ويمكن أن يترتب على الحمل والطلق قبل أن تنمو البنت في شكل كامل عواقب صحية وخيمة".
ورأى نشطاء واختصاصيو علم الاجتماع أنَّ "التوقعات الكبيرة بأن تتصرف الفتيات تصرف الراشدات غالبًا ما تشعل العنف تجاههن، عبر إساءة معاملة أولئك الفتيات، لفظيًا أو عاطفيًا أو جسديًا، يظن الراشدون أنهم يقومون بتأديبهن لتعديل سلوكهن".
وهكذا هي تجربة سارة مع زوجها السابق، مؤكّدة أنه "ضربني بالحزام لمدة عشر دقائق لأني رفضت شطف الدرج، كمثال على كيف أنه توعدني بأن يؤدبني دائمًا".
ويضع العمر الصغير، والمعرفة المحدودة بحقوقهن، العرائس القاصرات تحت أخطار أعلى بالتعرض للعنف مقارنة بالزوجات الراشدات، فيما أبرز تقرير المسح الصحي الديموغرافي للعام 2012 أنَّ 12.5% من الفتيات المتزوجات بين سن الخامسة عشرة والتاسعة عشرة ذكرن أنهن تعرضن لعنف جسدي من أزواجهن، بينما تعرضت 7.9% منهن إلى عنف جنسي خلال الحمل، ورأت 84.1% منهن أنّه "من المقبول أن يقوم الزوج بصفع زوجته أو ضربها إذا كان لديه سبب جيد لذلك".
وتعبّر مجموعات و نشطاء المجتمع المدني عن القلق من انتشار زيجات الطفلات والتطبيق غير الملائم للاستثناءات الواردة في القانون. ومع ذلك، لا يوجد حملة وطنية واحدة تستهدف المشرّعين والقضاة.
وتجرى نشاطات قليلة متفرقة لنشر الوعي في المملكة، ولكنها تستهدف في شكل أكبر اللاجئين السوريين وليس المواطنين الأردنيين.
ولا يزال الناشطون منقسمين في شأن ما إذا كانوا سيطالبون بالسماح بالاستثناءات في القانون أو إلغائها، ففي هذا البلد المحافظ لا يزال الزواج طقس العبور إلى الحياة الجنسية، كما أن ممارسة الجنس قبل الزواج هي من المحرمات، كا أوضحت إنعام العشا من المعهد الدولي لتضامن النساء، مضيفة "إذا وقعت فتاة في حب رجل، وأقامت علاقة جنسية معه يمكن أن تؤدي الى الحمل، يكون الزواج هو الحل".
في المقابل، شدّدت هالة عاهد من اتحاد المرأة الأردنية على أنَّ "الحكومة ومنظمات المجتمع المدني مسؤولة عن توفير الوعي والحماية الاجتماعية"، فيما أكّدت ناشطة حقوق الإنسان ورئيس المعهد الدولي لتضامن النساء/ فرع الأردن المحامية لبنى دواني أنه "يجب أن تمنح الاستثناءات، رغم أنني لا أفضلها، فقط في حالات نادرة جدًا وفي أضيق الحدود، من طرف لجنة من القضاة، وأن تكون تحت إشراف هيئات الحقوق المدنية".
وبينما يستعر الجدال بين النشطاء والمشرّعين ومنفّذي القانون، تقع آلاف الفتيات ضحية لهذه الممارسة كل عام.
وانتهى زواج خمس ممن رصد حالاتهن الاستقصاء بالطلاق، بما في ذلك حالتان تزوجتا وطلقتا أثناء الاستقصاء، وتقول كثيرات إنهن "سيسعين للطلاق إذا وافق الأهل".
ولم تثنها وصمة المجتمع التي تلحق بالمطلقة، وعادت سارة إلى المدرسة لتحقق حلمها بالعمل كمعلمة للعربية يومًا، مؤكّدة "إذا انقلبت حياتي بدقائق معدودة، فكيف سأشعر بالقلق على سنة دراسية ضاعت مني"، محاولة طمأنة نفسها بفتح باب المستقبل من جديد.
أرسل تعليقك