دبابة إسرائيلية في بيروت خلال الاجتياح العام 1982
لندن ـ سليم كرم
تعد الصحافة هي المسودة الأولى للتاريخ، وهو ما يتضح جليًا عندما تُنشر الوثائق الحكومية في وسائل الإعلام ليرى الجميع مدى دقة المسودة الأولى التي تكتبها الصحافة للتاريخ ومدى ما يتحقق من توقعات وتكهنات الكتاب والصحافيين ومدى صلابة هذه المسودة في مواجهة الزمن. وعلى الرغم من الإفراج عن الوثائق الدبلوماسية
السرية البريطانية أثناء أزمة جزر فولكلاند بين البلدين والتي ترجع إلى العام 1982، إذ جرت العادة على أن يُفرج عن تلك الوثائق وتنتفي عنها صفة السرية، ويمكن لوسائل الإعلام نشرها بعد مرور 30 عامًا من إصدارها، لكن هناك مجموعة أخرى من الوثائق المُفرج عنها هذا العام أيضًا، وهي الوثائق الدبلوماسية الصادرة بشأن الحرب الإسرائيلية على لبنان، وهي المجموعة التي نالت الاهتمام الأكبر والتركيز الإعلامي الأوسع نطاقًا، مقارنةً بالوثائق الخاصة بفولكلاند.
ولقد بدأت الحرب الإسرائيلية على لبنان من لندن عندما أطلق مسلح النار على وزير الخارجية الإسرائيلي شلومو أرجوف، وهو ما ظن الجميع وقتها أنه عضو في منظمة تحرير فلسطين، إلا أنه اتضح فيما بعد أنه من رجال أبو نضال، رجل المقاومة الفلسطينية المدعوم من العراق والعدو اللدود لياسر عرفات. على أي حال، اجتمع رئيس الوزراء مناحم بيجين ووزير دفاعه أرييل شارون وتم اتخاذ القرار بشن حرب على جبهة التحرير الفلسطينية في لبنان.
وأشارت الوثائق الدبلوماسية التي تناقلتها السفارات البريطانية حول العالم والتي صاغتها الخارجية البريطانية ورئاسة الوزارة إلى أدلة على أن "الموقف البريطاني يدعم الاستمرارية والتغير في اللحظة الأخيرة، إذ رفضت مارغريت تاتشر، التي كانت لا تزال تحتفل بانتصارها في معركة فولكلاند، عقد محادثات مع جبهة التحرير، ليس فقط لأنها لا تعترف بإسرائيل، ولكنها أيضًا لم تخرج الإرهاب من حساباتها أثناء العمل على تحرير الأرض، إلا أنها استقبلت وفدًا من جامعة الدول العربية في الوقت الذي لم توصد فيه الباب كليةً في وجه المنظمة، إذ فوضت وزير خارجيتها آنذاك، دوجلاس هيردس، بمقابلة، وزير خارجية عرفات، فاروق قدومي في خطوة اعتبرها الجميع اعترافًا دوليًا بالجبهة التي كانت تكافح من أجل الاعتراف بها كممثل وحيد لفلسطين، وهو ما وضعها في محل الشك بعد موافقة بريطانيا على الالتقاء بأحد مندوبي هذه الجبهة.
بذلك تكون بريطانيا قد أحدثت توازنًا بين تعاطفها مع العرب نظرًا للغزو الإسرائيلي للبنان، وعدم تجاهل الحقيقة التي تشير إلى أن وزير الخارجية الإسرائيلي تعرض لهجوم على يد أحد عناصر أحد الجبهات المنشقة عن منظمة تحرير فلسطين وفقًا لما ورد في المذكرات الوزارية السرية البريطانية.
وكان الموقف البريطاني، الذي تضمن شبه اعتراف من جانب بريطانيا بمنظمة التحرير، مثارًا للقلق بين أصدقاء بريطانيا في المنطقة، إذ رأى، العاهل الأردني، الملك حسين أن الخطر الذي يخشاه سيدخل في نطاقه الأمني الحصين الذي يحافظ عليه لسنوات، إذ توقع أن يكون هجوم إسرائيل على لبنان والتعاطف البريطاني مع ياسر عرفات ورفاقه يعني انتقال أعمال الجبهة إلى الأردن، مما دعاه إلى تأكيد أن أعضاء الجبهة الذين يحملون جواز سفر أردني فقط من سيُسمح لهم بدخول الأردن، وبعد تحقيقات مطلولة حتى يتم استبعاد غير المرغوب فيه منهم. ووفقًا للوثائق الدبلوماسية البريطانية المفرج عنها، حذر الملك حسين مارجريت تاتشر من أن هولوكوست غير مسبوق وحمامات دم ستشهدها المنطقة، إذا ما استمرت الحرب الإسرائيلية على لبنان واستهداف عناصر جبهة التحرير هناك.
ومن جهته، أُصيب حسني مبارك، الذي لم تكن مرت سوى أشهر قليلة على تولي رئاسة مصر، بحالة من الذعر حيال إمكان إعلان حكومة فلسطينية في المنفى من القاهرة. ولم يختلف الموقف السعودي عن ذلك، إذ حث تاتشر على ممارسة نفوذها هي والرئيس ريغان للحيلولة من دون المزيد من تصاعد الأزمة. ومع ذلك، ذكرت الوثائق السرية أن "تاتشر تجاهلت الدعاوى الكثيرة التي حثتها على طلب تدخل الرئيس الأميركي لمنع تقدم إسرائيل إلى غرب بيروت، وهو ما حدث بالفعل.
ولكن، وكما هي العادة دائمًا، أرسلت الإدارة الأميركية وفدًا من أجل التوصل إلى قرار بوقف إطلاق النار بين الجانبين. ووفقًا للسفير البريطاني لدى واشنطن في ذلك الوقت، الذي التقى وزير خارجية ريغان، ألكسندر هيغ، كان الأميركيون متورطين في الموقف إلى أبعد الحدود، إذ أقحمتهم إسرائيل في الأمر في كل خطوة من خطوات العملية العسكرية في لبنان. وكانت المذكرات التي دونها السفير البريطاني وأرسلها إلى الخارجية في لندن قد أشارت إلى "وجود انقسام داخل الإدارة الأميركية حول دعم إسرائيل، إلا أنه كالعادة، حُسمت الأمور لمصلحة المعسكر الموالي لإسرائيل في إدارة ريغان.
كما أشارت الوثائق إلى أن أحد مسؤولي الأمم المتحدة البريطانيين براين يوركوهارت، كان له دور في تمهيد الطريق بالتنسيق مع مسؤولين أميركيين أمام مطالبة إسرائيل بالسماح للمنظمات الإنسانية بالدخول وسط صمت عربي كامل وعدم استعداد واضح من جانب زعماء العرب كلهم للتدخل من أجل إنقاذ آلاف الفلسطينيين الذين كانوا يلقون حتفهم على أيدي الإسرائيليين الذين كانوا يمارسون الاغتيال الجماعي ضدهم وفقًا للوثائق البريطانية السرية المفرج عنها من وزارة الخارجية.
أرسل تعليقك