.منذ رحيل صاحب رواية "مائة عام من العزلة" الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز بتاريخ 17 أبريل من عام 2014 نشرت العديد من الكتب والمقالات والدراسات التي مرت على رحيل ماركيز ست سنوات عن عالمنا، ولم تتوقف الأوساط الثقافية ودور النشر في إسبانيا وفي بلده كولومبيا وفي مختلف بلدان أميركا اللاتينية والولايات المتحدة الأميركية ومختلف بلدان العالم عن تنظيم لقاءات وتظاهرات وملتقيات ومناظرات حول أدبه وإبداعاته ورواياته وكتبه، وإعادة طبع بعضها، كما لم يتوقف الحديث عن خطاباته التي جمعت قبيل رحيله في كتاب مستقل تحت عنوان "لم آت لألقي خطابًا"
وكان آخر كتاب نشر عنه يحمل عنوان "غابو..صحافيًا" وقبله بقليل كان قد صدر عنه كذلك كتاب آخر تحت عنوان "غابو رسائل وذكريات" من تأليف صديقه الحميم بيلينيو أبوليو ميندوسا. أما كتاب "غابو صحافيًا" فقد كان قد صدر قبل وفاته في كل من كولومبيا والمكسيك في آنٍ واحد عن دار النشر "صندوق الثقافة الاقتصادية"، كما كانت قد صدرت طبعات أخرى من هذا الكتاب في العديد من بلدان أميركا اللاتينية وإسبانيا بعد ذلك. وكان الكاتب والناقد الإسباني خوان كروث قد اعتبر هذا الكتاب عند صدوره كنزًا ثمينًا لا نظير له في عالم الخلق والإبداع الصحافي والأدبي على حد سواء، ولقد تم توزيع أو إهداء الطبعات الأولى منه في حياة الكاتب بالمجان، ثم بيع بأثمنة متفاوتة بعد مماته،
فالأمر كان يتعلق بواضع أشهر روايةٍ كتبت في القرن العشرين، وهي "مائة عام من العزلة" التي بيعت منها منذ صدورها أول مرة عام 1967 ملايين النسخ حتى اليوم. وحري بنا بهذه المناسبة أن نلقي نظرة متأنية على هذه الرواية التي حققت من الشهرة والذيوع والانتشار ما لم تحققه أي روايةٍ أخرى من رواياته أو روايات زملائه وخلانه وأصدقائه من الكتاب الآخرين سواء في موطنه كولومبيا أو في أي بلدٍ من بلدان أميركا اللاتينية الأخرى لا حصر ولا عد لها حول هذا الروائي المثير دائمًا للجدل قيد حياته، سواء في معايشاته الخاصة أو في رواياته أو تصريحاته أو مع أصدقائه وخلانه وكبريائه وخيلائه، وعناده والمشاكل الصحية التي كانت تنتابه قبيل وفاته.
رواية ملأت الدنيا وشغلت الناس
ماذا إذن في هذه الرواية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس؟ وما هي أهميتها وقيمتها بالنسبة لباقي أعمال ماركيز الإبداعية الأخرى؟ وماذا تخبئ بين صفحاتها أو تخفي بين دفتيها؟ وما هو سر أو سحر نجاحها وشهرتها وذيوعها وانتشارها ونقلها إلى مختلف لغات الأرض؟ (ترجمت إلى 37 لغة بما فيها اللغة العربية) الواقع أن رواية "مائة عام من العزلة" تعتبر من أشهر وأبهر روايات "غابو" الذي توج بها رحلته الطويلة في عالم الخلق والعطاء والإبداع بجائزة نوبل في الآداب عام 1982. لقد كتب ماركيز هذه الرواية في المكسيك ونشرها في بوينوس أيريس، ولم يكن يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين. وكان أول نقدٍ كتب حول هذه الرواية بقلم الناقد المكسيكي إيمانويل كاربايو عام 1967 عندما قرأها وهي بعد مطبوعة على الآلة الراقنة، ولم تكن قد صدرت بعد، لقد ذهب هذا الناقد في ذلك الوقت إلى القول: "إنه وجد نفسه أمام واحدةٍ من أعظم الروايات في القرن العشرين" ولم يخطئ.
ولد غابرييل غارسيا ماركيز في أراكاتاكا، وهي إحدى القرى الكولومبية الصغيرة المغمورة عام 1927، وخرج من قريته عام 1930، ومن كولومبيا عام 1954 إلا أنه ظل وفيًا لقريته وللذكريات التي عاشها هناك. وعندما بدأ يكتب قصصه ورواياته قفزت شهرة هذه القرية إلى مختلف أنحاء العالم، ونطقها الملايين بفضل ابنها البار. ونظرًا للحرارة المرتفعة المعروفة عن هذه القرية، فإننا نجد هذا الحدث ينعكس على معظم قصص ماركيز
العرب والعربية في مائة عام من العزلة
يتعرض ماركيز في هذه الرواية، التي تنتمي إلى مدرسة الواقعية السحرية التي ميزت الأدب الأميركي اللاتيني خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، للمهاجرين العرب الأوائل (مسلمين ومسيحيين) الذين وصلوا إلى أراكاتاكا (ماكوندو) في الرواية، وعن مهن التجارة التي كانوا يزاولونها، وعن الباعة المتجولين، وبائعي الحلي والمجوهرات، وهو يستعمل في تسميتهم مصطلح "الأتراك" وهو مصطلح غير دقيق (سموا كذلك فقط لأنهم عند هجرتهم كانوا يحملون جوازات سفر مسلمة لهم من طرف الدولة العلية العثمانية التركية)،
وتبدو في الرواية بعض العادات والتقاليد العربية؛ فـ "شارع الأتراك" سيصبح في الرواية فضاءً سيعرف تغييرات وتحولات واضحة سيكون لها تأثير على معظم سكان ماكوندو التي يقول عنها ماركيز أنها: "سرعان ما تحولت من ضيعة صغيرة إلى قرية نشيطة ذات دكاكين وأوراش للصناعات التقليدية، وإلى طريق تجاري دائم من حيث وصل العرب الأوائل" الذين تعاطوا التجارة والمقايضة وأحدثوا في القرية تنظيمًا اجتماعيا أساسيًا، وحياة ثقافية، وحملوا معهم "ألف ليلة وليلة" وقصصها العجيبة وخيالها المجنح (قرأ ماركيز هذا الكتاب في السابعة من عمره). إن وصول هؤلاء المهاجرين إلى القرية وانتشار مفهوم التجارة فيها قد يكون تلميحًا، أو رمزًا لوصول الإسبان إلى ما سمي فيما بعد العالم الجديد، أو إسبانيا الجديدة، أو أميركا.
تجدر الإشارة إلى أنني بعد قراءةٍ متأنية لهذا العمل الإبداعي الرائع- خلال وجودي في كولومبيا- (سفيرًا للمغرب في هذا البلد الجميل الذي يُنعت بأثينا أميركا اللاتينية) ( 2003- 2008) قمتُ بإجراء إحصاء دقيق للكلمات العربية أو التي تنحدر من أصل عربي الموجودة في هذه الرواية، فإذا هي كلمات عديدة جدًا لا حصر لها مبثوثة هنا وهناك في هذه الرواية منها على سبيل المثال: القطن، المسجد، السوسن، الضيعة، الجلباب، المخزن، العقرب، الكحول، الكافور، القطران، الزيت، المسك، السوط، الياسمين، الزهر، الخزامى، البِرْكة، الساقية، اللقاط، الزعفران، الزناتي (التي استقرت في الإسبانية بمعنى الفارس المغوار نسبةً إلى القبيلة الأمازيغية بالمغرب "زناتة")، الكيل، الثرثرة، الشراب، القاضي، القائد، البابوش (عربية- فارسية) وسواها من الكلمات الأخرى...
ولقد فوجئ العديد من المثقفين والكتاب الكولومبيين بذلك عندما ألقيت محاضرةً حول هذه الرواية باللغة الإسبانية منذ بضع سنوات خلال أمسية أدبية "بنادي نوغال" الشهير ببوغوتا، إذ يصعب في كثير من الحالات رد بعض الكلمات العربية أو ذات الأصول العربية التي استقرت في اللغة الإسبانية منذ قرون إلى أصلها أو أثلها العربي.
قصصُه فصول مستقلة
ويشير الناقد إيمانويل كاربايو إلى أن ماركيز بأعماله الروائية المبكرة قد أقام إلى جانب روائيين آخرين أسس وقواعد الرواية الجديدة في هذه القارة. وقد نال إعجاب القراء والنقاد إلى جانب كتاب مثل الراحل كارلوس فوينتيس وماريو برغاس يوسا، الذين انطلقوا من التزامهم باللغة ثم عمدوا إلى التحليل العميق لواقع الإنسان الأميركي اللاتيني، وعالجوا بذكاء أساطير وإرهاصات العالم الذي نعيش فيه، وتعكس أعمالهم حياة قارة بأكملها. ويرى الكاتب أن الروائيين الذين يعتبرون إخوة كبار لماركيز وهم كاربنتيير وكورتاثار ومارشال ورولفو أمكنهم كذلك خلق فن روائي جيد على مستوى القارة، وأن أول قصة كتبها ماركيز لم يكن عمره يتجاوز 19 سنة ونشرها بعد ثماني سنوات وهي "تساقط الأوراق" صدرت في بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية "الكولونيل ليس لديه من يكاتبه" وهي رواية قصيرة أو قصة مطولة أنهى كتابتها في باريس عام 1957، ثم "الساعة النحسة" التي حصل بها الكاتب على أول جائزة أدبية عام 1961، وفي عام 1967 ظهرت له "مائة عام من العزلة"، التي تعد من أجود الروايات التي شهدتها اللغة الإسبانية في القرن المنصرم.
لقد قدم ماركيز "للرواية الإسبانوأميركية" ما قدمه وليم فولكنر للرواية الأميركية. إن قصصه القصيرة هي بمثابة فصول مستقلة لم تجد مكانها في رواياته، أو ربما كتبت لتنير حياة بعض الشخصيات، أو تفسير بعض أحداث هذه الروايات الأكثر انتشارا في العالم، وهي قصص مكتوبة بطريقة تقليدية تجعل بينها وبين الماضي حدًا بواسطة الصمت الذي يغدو في أعمال ماركيز صوتًا مدويًا صاخبًا مثل كلماته مائة عام من العزلة نفسها التي هي سرد لتاريخ شعب.
قد يهمك ايضا
"تكساس" الأميركية تحصل على المحفوظات الشخصية لـ"ماركيز"
حرق جثة الأديب غابرييل غارسيا ماركيز الحائز جائزة نوبل للآداب
أرسل تعليقك